شهد شهر أيار تحولات جذرية في السياسة الأميركية تجاه سوريا، مع مزيج درامي من التقدم الدبلوماسي والنكسات الأمنية التي أظهرت هشاشة المشهد الراهن رغم الآمال المعلّقة على التغيير. فبينما احتفى الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره السوري أحمد الشرع بفتح صفحة جديدة في العلاقات بين بلديهما، جاء هجوم دموي نفذه تنظيم “الدولة” ليعيد إلى الواجهة التحدي المزمن المتمثل بالإرهاب، ويثير تساؤلات حول قدرة الحكومة السورية الجديدة على تنفيذ المهام الأمنية المطلوبة منها. وفي تحليل معمق نُشر حديثاً على موقع معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، تناول الباحثون أبعاد هذا التحول في السياسة الأميركية، والتحديات المتشابكة المرتبطة بملف تنظيم الدولة، ولا سيما في ظل التغيرات الجذرية التي طرأت على خريطة النفوذ والديناميات الإقليمية بعد سقوط نظام الأسد.
يقدم التحليل توصيات عملية لصناع القرار الأميركيين بهدف رسم مسار أكثر واقعية وفعالية في الشراكة الجديدة مع دمشق، من دون إغفال أدوار الفاعلين الآخرين، من قسد وتركيا إلى العراق وأوروبا.
ويعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التحليل في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة بواقع الأمن في سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية الصحيفة ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، من دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.
وفيما يلي ترجمة موقع تلفزيون سوريا لهذه المادة:
كان شهر أيار شهر الانقلابات الجذرية في تاريخ السياسة الأميركية المعنية بسوريا، فقد شهد حالات صعود واعدة وحالات هبوط مأساوية خلال الأسبوعين الأخيرين فقط، إذ بعد أيام من احتفال الرئيس ترامب ونظيره أحمد الشرع بفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، نفذ أعوان تنظيم الدولة تفجيراً بسيارة ملغمة في 18 أيار الجاري، أسفر عن مقتل عناصر من الأمن السوري في مدينة الميادين، ليكون ذلك أول هجوم ناجح ينفذه التنظيم ضد الحكومة الجديدة. وقد ذكرتنا تلك الحادثة بأنه حتى في الوقت الذي يركز المسؤولون على العملية السياسية، فإنهم لا يجيلون بصرهم بعيداً عن مهمة محاربة تنظيم الدولة، بما أن هذه المهمة تعتبر جزءاً مركزياً من السياسة الأميركية في سوريا منذ عام 2014.
سبق للبيت الأبيض أن حث الرئيس الشرع على التعاون في منع تنظيم الدولة من العودة مع تولي مسؤولية مراكز الاحتجاز التي تؤوي الآلاف من مقاتلي التنظيم وأهاليهم وذلك في شمال شرقي سوريا. بيد أن التحدي اليوم يتلخص في توضيح الطريقة التي يجب على دمشق أن تتبعها لتحقق تلك التوقعات على الأرض، مع وضع جدول زمني واضح للتنفيذ، والتنسيق مع شركاء الولايات المتحدة في المنطقة وغيرها.
تطور النهج الأميركي منذ عام 2014
منذ اقتحام تنظيم الدولة للمشهد في عام 2014، كانت الولايات المتحدة في مقدمة الدول التي تصدت لهذا التنظيم، إذ أصبحت أكبر دولة مانحة للتحالف الدولي، وقادت القوات العسكرية المتحالفة معها ضمن عملية العزم الصلب وذلك بالشراكة مع عناصر فاعلة محلية موجودة في سوريا والعراق. وفي سوريا، اختارت واشنطن الشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وبعد أن دحر التحالف الذي ترأسته الولايات المتحدة تنظيم الدولة من آخر معقل له في آذار 2019، انتقل الجيش الأميركي إلى مرحلة تقليص النفوذ بعد أن ركز على تدريب الشركاء المحليين وتقديم المشورة لهم وذلك فيما يتصل بتنفيذ مهمة محاربة تنظيم الدولة مع الحد من الوجود العسكري الأميركي هناك.
خلّفت الهزيمة العسكرية التي مني بها تنظيم الدولة أحد أخطر التحديات التي ظهرت في سوريا، وبقي هذا التحدي بلا أي حل حتى اليوم، ويتمثل باحتجاز قسد للآلاف من الرجال والنساء والأطفال التابعين لهذا التنظيم والذين تعود أصولهم لأكثر من ستين دولة، ولهذا، وبحسب ما أعلنته القيادة المركزية الأميركية، فإنه يمكن تقسيم مشكلة تنظيم الدولة الآن إلى ثلاثة أقسام، على الرغم من أن القسمين الأخيرين على صلة وثيقة ببعضهما، وتشمل تلك الأقسام ما يلي:
- “تنظيم الدولة بالعموم”: ويقصد بذلك قياداته وأعوانه الذين يحاربون الولايات المتحدة وشركاءها في سوريا والعراق.
- “تنظيم الدولة في مراكز الاحتجاز”: ويقصد بذلك الآلاف من الشبان والولدان (وأحياناً النساء والفتيات) التابعين للتنظيم والمحتجزين في مقار احتجاز سورية وعراقية، وكذلك في مراكز “لتأهيل” الشباب موجودة في هذين البلدين.
- “احتمال ظهور جيل جديد لتنظيم الدولة”: ويقصد بذلك الآلاف من النساء والقاصرين المحتجزين في مخيمي الهول والروج في شمال شرقي سوريا.
ألمح ترامب خلال ولايتيه في الرئاسة لإمكانية الانسحاب من سوريا، وخلال الفترة الفاصلة بينهما، وتحديداً في شهر آذار من عام 2023، صرح الجنرال مايكل كوريللا، قائد القيادة الوسطى الأميركية بالآتي: “إذا قررنا الرحيل عن سوريا، وفي حال عدم تمكن قسد من محاربة تنظيم الدولة بمفردها، عندئذ قد نشهد حالات هروب من السجون، إلى جانب نشر عقيدة التطرف في مخيم الهول، وبحسب تقديراتنا، فإن تنظيم الدولة يمكن أن يعود في غضون سنة أو سنتين”، ولكن مع رحيل نظام الأسد، أضحت سوريا اليوم مكاناً مختلفاً بشكل كبير، إذ أصبح الأمل يسود فيها تجاه تمكن الحكومة الجديدة في دمشق من توحيد البلد ونشر الاستقرار فيه، حتى في ظل وجود تلك التحديات الكبيرة. وكل ذلك أتى في الوقت الذي بدأت واشنطن بتخفيض مهمة التحالف الدولي في العراق، في خطوة يمكن في حال توسيعها أن تحد من قدرة أميركا على العمل في سوريا. ومما زاد هذا التحدي خطورة تلك الإصلاحات الشاملة التي طرأت على المساعدات الخارجية الأميركية، وشملت تخفيض أو تجميد التمويل المخصص لمخيمات الاحتجاز وعمليات الإجلاء.
وبما أن دمشق تواجه أزمة إنسانية حادة، لذا لم تعد مستعدة للاضطلاع بمهمة محاربة تنظيم الدولة بفروعها الثلاثة بمفردها، ولهذا تحتاج العلاقة الجديدة التي قامت بين سوريا والولايات المتحدة إلى أن تقوم واشنطن بوضع خطة واضحة من أجل محاربة تنظيم الدولة وضمان نشر الأمن، وإخلاء مقرات الاحتجاز والمخيمات الموجودة في شمال شرقي سوريا من ساكنيها في نهاية الأمر.
اختلاف الفاعلين والأجندات بالنسبة لمحاربة تنظيم الدولة
بما أن واشنطن تولت منذ أمد بعيد أغلب العبء العسكري والمالي المخصص لمحاربة تنظيم الدولة في سوريا، فإن الرسائل الأولية التي وجهها ترامب خلال ولايته الثانية دفعت عناصر فاعلة دولية أخرى لطرح أجنداتها الخاصة.
دمشق
اتخذت الحكومة السورية الجديدة خطوات لمحاربة تنظيم الدولة حال عودته، وشملت تلك الخطوات الاستعانة بمعلومات استخباراتية أميركية لاستهداف مقاتلي التنظيم، وتعتبر تلك الخطوات مهمة لكونها قادرة على تخفيف المخاوف الأميركية تجاه العلاقة التي ربطت الشرع في السابق بتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة.
غير أن المهمة الجسيمة المتمثلة ببناء الدولة تترك السؤال التالي مفتوحاً: هل بوسع دمشق حقاً تولي مسؤولية مهمة محاربة تنظيم الدولة بأكملها؟ وهل ترغب بذلك أصلاً؟ بما أن الأمر يشمل تولي أمور مراكز الاحتجاز التي تديرها قسد والتي تؤوي عناصر تابعة للتنظيم مع عائلاتهم.
قسد
كانت قوات سوريا الديمقراطية الشريك الأساسي لواشنطن على الأرض، ولذلك تعتبر جزءاً أساسياً من مهمة محاربة تنظيم الدولة، فقد أسهمت في هزيمة التنظيم عسكرياً، كما أمنت مقار ومعسكرات الاحتجاز بعد تباطؤ جهود العناصر الفاعلة الدولية في إجلاء مواطنيها، إلا أن قسد ليست دولة، وقد واجهت تحديات ترتبط بالحكم المحلي، ناهيك عن التحديات التي تواجهها من طرف تركيا التي تعتبر هذه الجماعة فرعاً لحزب العمال الكردستاني المصنف كتنظيم إرهابي لدى كثير من الدول، غير أن هذا التنظيم حل نفسه مؤخراً. ثم إن الظروف في تلك المخيمات قد ساءت بعد سقوط الأسد، ما جعلها في حالة ضعف شديد، لذا، ومن دون الدعم الأميركي، تصبح قسد أمام خطر التعرض لمواجهة مباشرة مع تركيا، وهذه المواجهة قد تجعلها عاجزة عن مواصلة العمل على مهمة محاربة تنظيم الدولة.
تركيا والعراق
طرحت هاتان الدولتان المجاورتان لسوريا أجندتيهما أيضاً، إذ بعد أن استغلت تركيا الرسائل المبهمة التي وجهتها واشنطن بعد الإطاحة بالأسد، اقترحت تركيا إقامة منصة إقليمية، لتتولى من خلالها قيادة التحالف الدولي إلى جانب العراق والأردن وسوريا. وكان الهدف من ذلك تهميش قسد وتقليص النفوذ الأوروبي في آن معاً، غير أن الشركاء المحتملين لتركيا في هذه المنصة تراجعوا عن المشاركة بعد اجتماعات أولية تبين لهم من خلالها بأن أنقرة تسعى لتجاوز مهمة محاربة تنظيم الدولة وذلك عبر ملاحقة فلول حزب العمال الكردستاني. وهنالك تحديات أخرى تمثلها هاتان الدولتان، ومن بينها عجز أنقرة عن تنفيذ المهمة بمفردها، وتشكيك بغداد بقدرة حكومة الشرع على محاربة التنظيم بعد تقليص المهمة التي تقودها أميركا في العراق، إلى جانب وجود أكثر من 15 ألف عراقي وعراقية ضمن مقار ومخيمات الاحتجاز التي تديرها قسد.
أوروبا
دعمت فرنسا والمملكة المتحدة المهمة العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة في سوريا، وعندما أبطأت واشنطن في توضيح سياستها تجاه سوريا بعد الإطاحة بالأسد، ضغطت العناصر الفاعلة الأوروبية من أجل تخفيف العقوبات، واقترحت بدائل عنها، شملت مواصلة عملية العزم الصلب بالتنسيق مع الحكومة السورية الجديدة. وهنا يرجح تنسيق سوريا مع التحالف اليوم، وذلك استناداً لما تمخض عنه الاجتماع الذي ضم واشنطن ودمشق في 14 أيار الجاري، والذي أشار إلى وجوب “مساعدة” الحكومة السورية للولايات المتحدة في منع تنظيم الدولة من الظهور مجدداً، ويرى بعض المحللين بأن الاتحاد الأوروبي لا يمكنه هو وأي دولة أخرى عضو فيه تولي مهمة محاربة تنظيم الدولة.
التوصيات
توجهت واشنطن لدمشق حتى تسهم في محاربة تنظيم الدولة ولتتولى السيطرة على مقار ومخيمات الاحتجاز التي أقيمت لعناصره في سوريا، ولذلك يجب على المسؤولين الأميركيين وغيرهم مراعاة الأولويات التالية:
- يجب على دمشق إبداء قدرتها واستعدادها لتولي مهمة محاربة تنظيم الدولة، ولتحقيق هذه الغاية، يجب على الولايات المتحدة تشكيل مجموعة عمل مشتركة تعنى بمعالجة الأقسام الثلاثة لهذه المهمة، وهي (1) عودة تنظيم الدولة، (2) مقاتلو التنظيم الموجودين في مقرات الاحتجاز، (3) عائلات مقاتلي التنظيم الموجودة في مخيمات الاحتجاز. كما يبنغي على المسؤولين السوريين توضيح نواياهم، ليس فقط تلك المتعلقة بتولي المهمة بأكملها، بل أيضاً بالنسبة لضمان نشر الأمن والتعامل بصورة إنسانية مع المحتجزين.
- يجب على واشنطن وحلفائها التأكيد على ضرورة إقامة علاقة صحية بين دمشق وقسد: في الوقت الذي تبدو الولايات المتحدة على وشك الحد من نفوذها في الشرق الأوسط، أعلنت واشنطن بأن هنالك ضرورة لتعاون دمشق مع قسد، إلا أن قدراً ضئيلاً من التقدم قد تحقق فعلياً بعد الاتفاق المبدئي على الاندماج بين دمشق وقسد والذي وقع في شهر آذار الماضي، ويعود أحد أسباب ذلك إلى أن قسد تعتبر دورها في مهمة محاربة تنظيم الدولة على وجه الخصوص، ودورها في إدارة مقار ومخيمات الاحتجاز، بمثابة عبء وأداة للتفاوض بوسعها الاستعانة بها ضد دمشق والعناصر الفاعلة الدولية، وفي تلك الأثناء، لم تشعر دمشق بأي ضغط يدفعها للتنازل أمام قسد، كما لم تعترف بخبرة تلك الجماعة الكردية والتدريب العسكري الذي تلقته من أجل مهمة محاربة تنظيم الدولة. وبما أن الأمور قد وقفت عند هذا الحد، فهذا يعني بأنه ليس بمقدور دمشق ولا قسد تنفيذ مهمة محاربة تنظيم الدولة بمفردهما، بل يجب عليهما إقامة علاقة ناجحة حتى تسلم واشنطن لهما زمام أمور تلك المهمة بشكل ناجح.
- ينبغي على الولايات المتحدة مطالبة تركيا بوقف ممارستها التي تهدد بعودة تنظيم الدولة إلى الظهور، وذلك بدءاً من الاستعانة بالعدوان العسكري ضد قسد، مروراً بإعطاء الأولوية لأجندة تركيا المناهضة لحزب العمال الكردستاني، وصولاً إلى تهميش الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين عبر اقتراح تحالفات جديدة، إذ عملت تركيا في بعض الأحيان على تقويض عملية محاربة تنظيم الدولة بعنوانها العريض، ولهذا يجب على واشنطن أن توضح لأنقرة بأن هذا غير مقبول، وبناء على هذا الأساس، قدمت مجموعة العمل الأميركية-التركية بشأن سوريا في 20 أيار الجاري فرصة مهمة بالنسبة لواشنطن حتى توضح جوانب الأنشطة التركية التي تهدد الهدف المشترك والمتمثل بمنع تنظيم الدولة من معاودة الظهور.
- لا يحق لأميركا تهميش شركائها الأوروبيين: إذ في الوقت الذي أثنى الرئيس ترامب على الدور الذي لعبته السعودية وتركيا في عملية التحول بسوريا، فإنه لا يحق لواشنطن أن تحول بصرها عن الجهود الكبيرة التي قدمتها أوروبا لمحاربة تنظيم الدولة، ولهذا يجب على واشنطن مواصلة العمل مع العواصم الأوروبية لضمان توافق سياساتها تجاه دمشق، إلى جانب مطالبتها بتحمل جزء أكبر من العبء المالي، ومن جانبها، ينبغي على الدول الأوروبية أن تعطي الأولوية لعمليات إجلاء مواطنيها من أجل تخفيف العبء الواقع على عاتق سوريا.
- يجب على واشنطن أن تكون واقعية بالنسبة للجدول الزمني: لأن مهمة محاربة تنظيم الدولة تحتاج إلى تدريب ومعدات ودعم استخباراتي، ووقت أيضاً. ولذلك يجب على كل من وزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين أن تشاركا في وضع جدول زمني واقعي بالنسبة للعملية التي سيتم بموجبها تسليم السيطرة بشكل تدريجي للحكومة السورية.