حتى اليوم، وبعد مرور ستة شهور على سقوط نظام حكم الأسديين في سوريا، تشهد الحالة الثقافية ترهلًا كبيرًا. ففضلًا عن العطالة النسبية التي تشهدها الحالة الرسمية، والتي ما زالت تنتظر خطةً ما، قيل إنها قيد الإعداد بين وزير الثقافة محمد صالح وعدد من مديري المؤسسات التابعة للوزارة، يبدو أن المثقفين أنفسهم يعانون حالة إحباط شبه عامة، رغم الإعلان عن السعادة بانقضاء زمن التسلط والقمع المديد.
لا يمكن لأي مثقف أن يعلن موقفًا كاملًا مما يجري في البلاد، فالمشهد الناقص، يقتضي تحسبًا، ويجعل الكلمة تتردد في الفم قبل أن تخرج. ليس خوفًا من السلطة، بل من عدم اليقين بأن الرداءة التي يراها هي سمة المشهد، أو أن الجودة هي كذلك. وبالتالي فإن الترقب يكاد يكون هو الفلتر الذي يجب أن تمرّ عبره آراء تقال في جلسات المقاهي.
هل يمكن الحصول على آراء صريحة وواضحة حيال ما يجري؟
توجهت “المدن” إلى عدد من المثقفين الناشطين، داخل البلاد وخارجها، كي نستطلع بواعث الأمل واليأس في آن معًا، وطلبنا منهم التفكير ومحاولة الإجابة على سؤال يتردد ضمن الأوساط الثقافية، عن الرؤية الغائمة أو المغبشة لدى المثقفين حول الاتجاه الذي يجب أن تمضي فيه البلد.

الروائي
عبد الرحمن مطر، المقيم في كندا، يرى بأن نقاش هذه القضية يستدعي العودة إلى المفاهيم المتصلة بدور المثقفين وفقًا لعلم الاجتماع، لكن الحالة السورية “تتطلب الذهاب مباشرة إلى مقاربة المسألة باعتبارها إشكالية مطروحة، يُلقى فيها باللائمة والتقصير على المثقفين”.وحول أوضاع وأدوار هؤلاء، يقول مطر: “ثمة دور محوري وفاعل للمثقفين في ما يتعلق بالتطورات الجارية في سوريا. من هنا أجد لزامًا ضرورة الإشارة إلى نقاط ثلاث: أولاها علاقة المثقفين بطرفين أساسيين، هما السلطة والمجتمع. ففي حين لا تعترف السلطة بأي دور متمايز للمثقف بصورة عامة، فإن المجتمع أيضًا يبدو غير معني بدور المثقف، أو أنه دور ثانوي لا أهمية قصوى له في تشكيل المستقبل الوطني، بمعنى غياب الثقة في دور المثقف السوري. وبالتالي فإن عملية الإقصاء المنظّمة التي يتعرض لها المثقفون، متواصلة، وهي في الواقع لم تتوقف، منذ بدأ صعود صورة تسليح الثورة السورية، حتى السيطرة التامة على المشهد السوري”.
ويتابع مطر: “أما النقطة الثانية، فتتصل بغياب المنابر المستقلة التي تمنح المثقف فضاءً مفتوحًا خارج الرقابة، من أجل التعبير والتفكير والنشر. ومع تطور وانتشار وسائل الإعلام، تضيق فسحة المنابر المستقلة، وتبرز محورية: مع، أو ضد بشكل قاطع. والنقطتان الآنفتان تجعلان من حرية التعبير مسألة تقترب من المحذور، إلى المحظور أو اللامرغوب فيه. والنقطة الثالثة تتمثل في ضعف أداء المؤسسات ذات الطبيعة الثقافية، ولهذا أسباب كثيرة، من أهمها غياب مصادر مستقلة للتمويل، أو التمويل غير المشروط، وكذلك تداعيات وإشكاليات المنفى التي ترمي بثقلها على المثقف السوري في الخارج، وظروف الحياة القاسية والظالمة في الداخل. ومع كل ذلك، فإن من يثير النقاش العام حيال مجريات الحياة السورية الجديدة وتطوراتها، وإعادة بناء مؤسساتها، هم المثقفون، وهم بذلك يفعلون ويمارسون دور الرقابة، في ظل انكماش مؤسسات تُعنى بالمراقبة والمحاسبة”.
ويصف مطر المثقفين بصفة تستوجب منهم مهمة واضحة، فهم اليوم “حرّاس حرية التعبير، وهم جمرة الذاكرة، في حركة المجتمع المدني السوري، وهم الأكثر عرضة لانتهاك حقوقهم وحرياتهم في التعبير، ومنع النشر، والملاحقة الأمنية، ودفع أثمان باهظة، تصل إلى فقدان الحرية، والأرواح”!

الشاعرة وداد سلوم، المقيمة في مدينة حمص، ومن موقعها الثقافي، لا تذهب نحو تقييم وضع المثقفين أنفسهم، بل تسأل عما يجري في الواقع الذي يتحركون فيه، وعن صدمة التغيير التي وقعت على رؤوس كثيرين، فتقول: “كسقوط النظام لم يكن فقط خطوة مفصلية في الواقع السوري، وإنما مفاجأة بشكل غير قابل للتصديق. فخلال الأعوام الـ14 الماضية، بدأنا نميل إلى عدم التصديق بإمكانية رحيل نظام الأسد، ولهذا لم نضع تصورًا لما بعد سقوطه، لكن ومع فرحة السقوط بدأنا نستعيد الحلم الذي نريده بدولة مواطنة وقانون وعدالة على مساحة البلاد”.تضيف سلوم: “ربما ذهبنا إلى التفكير في ذلك بشكل طوباوي في البداية، من دون وضع خطوات المرحلة الانتقالية في الاعتبار، وبلا تقدير لرؤية سلطة الأمر الواقع على ضوء خلفيتها الفكرية ونهجها السياسي خلال أعوام طويلة. ولهذا، كانت هناك صدمات متتالية في الخطوات التي تقوم بها، وانعكس ذلك بوضوح على إحساسنا بفقدان الأمل أحيانًا، وفقدان الرؤية، التي أعتقد أنها مرتبكة لدى السلطة ذاتها. لهذا، عليها الانتباه ووضع يدها في يد كل جهد مخلص، وعدم القفز فوق مطالب حقيقية تستطيع أن تكون ركيزة لتمكين المجتمع، وإعادة النظر في الوضع الاقتصادي للناس وقرارات تفريغ قطاعات من موظفيها، رغم الحاجة إليهم، كالقطاع الصحي، والاستفادة من كفاءات وطنية وتفعيلها، فالوضع الاقتصادي يشكل تحديًا مُلحًّا بعد الأمني، ولا نستطيع التنبؤ بحجم الفاقة التي ستقف عليها أعداد كبيرة من الناس. وإلا، فإنها ستعيد إنتاج نظام قمعي بلبوس جديد. وعندها، لن تفيدنا أحلامنا، ولا تعويلنا على فعالية المجتمع المدني”.

الاتفاق على عجز المثقفين، وعدم خروجهم حتى الآن من حالة الصدمة، لا يعني بأن العجز ملتصق بهم، بل إن القراءة المدققة لما يجري تكشف أن غياب الرؤية بات أمرًا لا يمكن إخفاؤه، وهذا ما تؤكده الكاتبة والناشطة الحقوقية
هنادي زحلوط، المقيمة في فرنسا. فتحدّد أن العيب الأهم في هذه المرحلة الانتقالية بشكل عام، إنما هو “غياب الرؤية لدى الإدارة الجديدة، بالإضافة إلى غياب الشفافية في التطبيق، حيث لا يعرف الناس ما هي الإجراءات التي تقوم بها الإدارة الجديدة، القوانين، السماح بالمطاعم وأماكن السهر على سبيل المثال، اللباس في الأماكن العامة وعلى الشواطئ”.تضيف زحلوط: “المعايير غير واضحة، وهناك انطباع بتجميد القانون، وبالرغبة في التشدد. لكن هذا يبقى انطباعًا، وهو ما يجعل الانتهاك – في حال حدوثه – غير محدد، لأن القانون غير محدد، ومن الممكن اعتبار كل انتهاك حالة فردية، والقول ببساطة إن هذا الأمر لا يمثل القانون، ولا يمثل توجه السلطة الجديدة. هناك أمور لا بد منها لبدء التغيير، كوضع قوانين واضحة لا لُبس فيها، والبدء بمسار عدالة انتقالية لا استثناءات فيه. الناس بعد الأسدية تحتاج للإحساس بأن هناك عدالة للجميع، بدلاً من مشاعر الكراهية والرغبة بالثأر، والناس إثر انتهاكات ما بعد سقوط الأسد ومجازر الساحل، في حاجة إلى العدالة، والتقدم، والتخلص من الخوف، والمشاركة في بناء البلد”.
وحول خطة الخروج من الوضع الحالي، ترى زحلوط أن “الشعب السوري يحتاج إلى بناء مؤسسات المجتمع المدني والمشاركة الفاعلة في النقابات، ليكون له صوت، فنحن أمام مجلس شعب يتم تعيينه، ولا آليات واضحة للمحاسبة، إن كان على مستوى مجلس الشعب أو الحكومة. على المجتمع السوري أن يتحرك ليضع أسسًا واضحة للمرحلة الانتقالية، لأن السلطة لا تفعل ذلك، وهذا يعطي انطباعًا بالفوضى في مجالات عديدة: أمنية وإدارية وتنفيذية. المؤسسات السياسية أيضًا لم تُبنَ بعد، كالجيش والأجهزة الأمنية، لا قانون للأحزاب، لا قانون للجمعيات، لم يُعيّن مُديرو الشؤون الاجتماعية بعد، ونحن على بعد أكثر من ستة أشهر من سقوط النظام السابق، وهذا يكرّس ضبابية في مؤسسات الدولة”.

المغنية والمؤلفة الموسيقية
رشا رزق، وهي أستاذة سابقة في المعهد العالي للموسيقى في دمشق، تعود في تحديدها للعلاقة بين المثقفين والوضع الحالي القائم في البلد، إلى عتبة ما يجري ضمن المؤسسات الثقافية، والتخصصية منها على وجه الدقة: “مشكلتي، وأعتقد أنها مشكلة الكثير من الفنانين الذين يعملون بالمجال الثقافي أكثر منه التجاري (أي الحفلات في المسارح والمهرجانات، وليس في مجال المطاعم وصالات الفنادق والنوادي الليلية، لأن هؤلاء لم يتوقفوا عن العمل قبل النظام البائد، أو خلال سطوته أو بعد سقوطه). مشكلتنا هي غياب السياسة الثقافية، بسبب غياب الرؤية العامة للدولة. لم نسمع أو نفهم ما هي السياسة الثقافية لسوريا الجديدة، لا من فم وزير الثقافة الذي لم يكلّف نفسه تغيير سياسة الوزارة في موقعها الرسمي حتى، ولا من فم رئيس الوزراء، مما يعطينا إشارة واضحة إلى أن الثقافة هي آخر هموم هذه الحكومة. ونرى هذا جليًّا من خلال ترك الشخصيات نفسها المحسوبة على البروباغندا الثقافية الأسدية على رأس أعمالها وفي مناصبها كما هي”.تضيف رزق: “قبل سقوط النظام، كانت دار الأوبرا تقدم أعمالًا لتمجيد قاسم سليماني وجيش الكيماوي، واليوم، الفنانون والمُديرون أنفسهم ارتدوا عباءات جديدة، ويقومون بالدور السابق نفسه، أي التطبيل لأي شخص موجود في السلطة. هل هذا هو دور الثقافة؟”. وتشير رزق إلى أن المعهد العالي للموسيقى “يفتقر اليوم لأساتذة، ولقطع غيار الآلات الموسيقية، بسبب الحصار الاقتصادي، كما أن وضع الطلاب مُزرٍ، والمستوى التعليمي من أسوأ ما يكون، لا سيما في ما يتعلق بآلات موسيقية حُرم دارسوها من الأساتذة خلال الأعوام الـ14 الماضية، فصار الخرّيج الذي درس وحده، بلا أستاذ اختصاصي يهبد أي كلام على الطلاب الجدد. ويا ربّ يسِّر. والوزير وينه؟ عم يعمل سيلفي على طبق الكرامة!”.
إلى متى تجاهل الثقافة كمكوّن وطني؟
تكشف الآراء هنا أن أزمة المثقف السوري راهناً، لا تنفصل عن تراكمات عقود من الإقصاء والتهميش الممنهج خلال حكم النظام السابق، إذ أُفرغت الثقافة من مضمونها النقدي، وحوصرت أدوار المثقفين ضمن أطر الولاء والترويض. ومنذ سقوط النظام، لم تتبلور بعد رؤية واضحة للمرحلة الانتقالية، لا من جهة السلطة، ولا من جهة النخبة الثقافية نفسها، والتي تبدو في حالة انتظار وترقب، وربما صدمة لم تزل فصولها تتوالى.
ورغم تعدد التحديات، من غياب المنابر المستقلة إلى هشاشة المؤسسات، يظل للمثقفين دور محتمل في إعادة صياغة العلاقة بين المجتمع والدولة، بشرط توافر حدّ أدنى من الفضاءات الحرة، وضمانات التعبير، ورؤية تضع الثقافة في صلب عملية إعادة البناء. فالمرحلة ما زالت في بداياتها، ومن السابق لأوانه إصدار الأحكام، لكن من المؤكد أن تجاهل الثقافة كمكوّن أساس في أي مشروع وطني، لن يؤدي سوى إلى تأجيل الاستقرار الحقيقي، وتعميق الفراغ الذي لطالما ملأته السلطة القديمة بسيطرتها الرمزية.