في مسرح التاريخ البشري، تبرز شخصيات تُحدث تحولات لا يمكن فهمها بالمنطق التقليدي وحده. إذ يمكن لإرادةٍ فردية، أو لنزوةٍ عابرة، أو لِهدفٍ ذاتي خالص، أن تُطلق شرارة تغيراتٍ كبرى، دون أن يكون الفاعل مدركا للنظام الكوني الذي تسهم فيه أفعاله.
هنا، تتجلى مقولة الفيلسوف الألماني هيغل عن “مكر التاريخ” (أو مكر العقل)، حيث تُستخدم الأهواء والأعمال الفردية لِتحقيق غاياتٍ أسمى، غير مُدرَكَةٍ لأصحابها. وفي هذا السياق، يُقدم موقع ودور دونالد ترامب في عالمنا المعاصر تجسيداً فريداً لهذا المفهوم الفلسفي.
تُمثل سياسة “أميركا أولا” التي انتهجها ترامب مثالاً بارزاً على “مكر التاريخ”.
المحفز غير التقليدي والتحولات الخفية
لقد جاء ترامب إلى سدة الحكم، ليس بِمَنطق السياسي التقليدي، وإنما بأسلوب كاسرِ القواعد Disruptor، مُحطمِ الأعراف، والمُتحدي لِلمؤسسات الراسخة. من هنا، غالباً ما بدت قراراته ودوافعه شخصيةً بحتة، مُوجهةً لِإرضاء قاعدته أو تحقيق مكاسب فورية. فانسحابه من الاتفاقيات الدولية، وشن الحروب التجارية، وتصريحاته المباشرة التي تُخالف لغة الدبلوماسية التقليدية، كلها أفعالٌ أثارت جدلاً وصدمة. ولكن، من منظور “مكر التاريخ”، ربما تكون هذه الأفعال الصاخبة قد خدمت، دون قصد، غاياتٍ أبعد. فمن خلال زلزلة الاستقرار الظاهري، كشف ترامب عن هشاشةٍ بنيانٍ قائم، وأجبر العالم على مواجهة حقائق كانت مُتوارية خلف الستار.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك، دوره في التعامل مع الملف السوري؛ حيث أقدم على خطوات غير متوقعة، كرفع العقوبات عن سوريا، في وقتٍ بدت فيها مثل هذه الخطوة مستحيلةً، أو طويلة المدى على الأقل، في منهج السياسة الخارجية الأميركية المعتادة. ما أدّى لِفتح مسارات لم تكن متوقعة عبر سنوات من الجمود الدبلوماسي، وكأنما تُستخدم النزعة الفردية لِكسر القيود التي طالما عطّلت الحراك.
وعلى نحو ذو دلالة، جاء قراره الأخير بضرب منشآت نووية إيرانية بشكل مباشر، ليمثل انقلاباً حاداً على وعده الأساسي بـ “إنهاء الحروب اللانهائية” في الشرق الأوسط وبشعار “أميركا أولا”. فهذا التدخل العسكري غير المسبوق، والذي أتى بعد فترة من الضغط الإسرائيلي وتصاعد التوترات، لم يُغير المشهد الإقليمي فحسب، وإنما دفع بالولايات المتحدة الى قلب صراعٍ كان طويلاً يُدار بالوكالة.
وكأنما التاريخ قد اختار يداً غير تقليدية لِتحريك بيادق اللعبة نحو مرحلةٍ جديدة من المواجهة أو إعادة التفاوض، حتى لو كان الفاعلُ نفسه قد تعهد سابقاً بِتجنب مثل هذه المستنقعات. وها هي سوريا ولبنان وإيران، تُصبح محطات بارزة في مسيرة “مكر التاريخ” تلك، لتُظهر كيف تُفضي الأفعال غير المباشرة أو المتناقضة ظاهريا إلى تحولات عميقة في موازين القوى الإقليمية والدولية.
إعادة ترتيب التحالفات وكشف أوراق النظام العالمي
تُمثل سياسة “أميركا أولا” التي انتهجها ترامب مثالاً بارزاً على “مكر التاريخ”. بِتحديه لِأركان التحالفات التقليدية (مثل حلف الناتو)، وبِإعادة تقييمه لِلعلاقات التجارية على أساس المصالح المباشرة، وبِنهجه المباشر في التعامل مع الدول الفاعلة في الشرق الأوسط.
هكذا، أحدث ترامب اضطراباً في النظام العالمي بعد الحرب الباردة، وإن لم يكن هدفه المعلن هو إعادة تشكيل هذا النظام لِيعمل بشكل أفضل، وإنما كان يُريد في الظاهر “تصحيح الأخطاء” التي يراها تضر بأميركا. لكن النتيجة غير المقصودة لِأفعاله كانت إجبار الدول الأوروبية على إعادة تقييم دفاعاتها، ودفع دول عربية الى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل (اتفاقيات أبراهام) من منطلق مصالح مشتركة في مواجهة تهديدات إقليمية، وتفكيك وهم الإجماع داخل الحزبين الأميركيين على سياسةٍ خارجية واحدة. هكذا، تُستخدم الرغبة في “الانسحاب” كَأداةٍ لِتحريك الآخرين نحو “إعادة التموضع”.
إن المفارقة الكبرى في دور ترامب تكمن في أن شخصية تُوصف غالبا بالفوضوية واللاعقلانية، قد أصبحت قوة مُحركة لِتغيرات هيكلية ذات أبعاد استراتيجية عميقة.
كشف النقاب عن انقسامات مجتمعية عميقة
على الصعيد الداخلي، لم يكن تأثير ترامب أقل دلالة. فباستخدام خطابه الشعبوي، وقدرته على التواصل المباشر مع شريحةٍ واسعة من الناخبين الذين شعروا بأنهم مُهمشون، كشف ترامب عن انقسامات مجتمعية واقتصادية وثقافية عميقة كانت مُتخفية او مُتجاهَلة. لقد أخرج إلى العلن غضباً وإحباطاً مكنونين، وكسر حواجز “الصوابية السياسية” التي كانت تُخفي تناقضات كبرى.
أما أفعاله، وإن كانت مُثيرة للجدل، فقد دفعت المجتمع الأميركي إلى مواجهة نفسه، وإعادة تقييم القيم، والتحقق من مدى قوة مؤسساته الديمقراطية. في هذا المعنى، قد يُصبح ممكناً اعتبار ترامب أداةً في يد التاريخ لِكشف النقاب عن “الألم” الكامن في جسد الأمة.
مفارقة القوة: العقل الكوني في العمل
إن المفارقة الكبرى في دور ترامب تكمن في أن شخصية تُوصف غالبا بالفوضوية واللاعقلانية، قد أصبحت قوة مُحركة لِتغيرات هيكلية ذات أبعاد استراتيجية عميقة. فهو لم يكن مهندس هذه التحولات بِشكل واع أو مُتعمد، لتحقيق أهداف تاريخية كبرى، بل لعل أهدافه كانت أقرب لِلمصالح الشخصية أو السعي لِلسلطة. ولكن، ضمن سياق “مكر التاريخ”، تُسخّرُ هذه الدوافع الفردية لِتحقيق غايات أعمق، تدفع الزمن الى الأمام، وتُجبر اللاعبين على إعادة تعريف مواقعهم وأدوارهم.
ويبدو مؤكداً، نهاية المطاف، أنه لا يمكن النظر الى دونالد ترامب كَشخصية سياسية عادية. فبِعدسة هيغل، يظهر الرجل كأداةٍ مُعقدة في يد التاريخ.. كَشخصية فريدةٍ، مهما بدت أفعالُها غير متسقة أو فوضوية، غير أنها أشعلت جذوة تحولات كبرى، وأجبرت العالم على التفكير، من جديد، في أسس علاقاته وقيمه.
إنه رجل، رغم كل ما يُقال عنه، قد ترك بصمة لا تُمحى في كتاب التاريخ، ليس لِما أراده، بل لِما فعله بِغير قصد، تحت مظلة “مكر العقل الكوني” الذي يبدو أنه يُظهر لنا، مراراً وتكراراً، كيف أنه يُدبر للوجود غاياته الأبدية.
- تلفزيون سوريا