يتأوه السوريون حسرة على أوضاعهم وسوء حالهم ، عندما يشاهدون مظاهر الحوار الدائر وبأشكال مختلفة بين الفرقاء في البلدان العربية الأخرى . حوار يطال كل القضايا المطروحة وذات الاهتمام ، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بل والأمنية أيضاً . بينما يسود الصمت أو ما يشبهه في الحياة العامة السورية ، وأقصى ما يمكن أن يحصل في هذا الوارد نقاشات طارئة ومحدودة من وراء المكاتب وفي الغرف المغلقة ، محكومة باللحظة الآنية والسقوف المنخفضة . وفيها حمولة زائدة من التشاوف والادعاء والاتهام أكثر مما تتضمنه من فعل سياسي وجهد معرفي ، يحتاجهما العمل العام .
في الكويت يحاور البرلمان الحكومة ، وتحاور السلطة المجتمع وقواه الفاعلة في مختلف الميادين . وفي السعودية تفتح الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى أبواباً للحوار ، طالما كانت مغلقة بألف رتاج ، في قضايا اعتبرت من الثوابت والمسلمات لفترة طويلة من الزمن . وفي السودان واليمن يتحاور المتقاتلون . وقد استبدلت السلطة والخارجون عليها لغة الحرب بلغة الحوار والاتفاقات . أما في لبنان ، فتكاد الحياة العامة أن تكون حواراً متواصلاً في كل الأوقات . وليس بخاف على أحد أن الحوار في هذا البلد الحساس ذي الخصوصية الفائقة والتوازنات الهشة هو طوق النجاة الدائم ، الذي يبعده عن حافة الخطر . وفي المغرب العربي حوارات مستمرة ، قاربت كل القضايا الحساسة ، وجعلت هموم الناس والوطن على ألسنة الجميع . دون أن يغيب عنا أن معظم الحوارات في عالمنا العربي لا تتم بظروف صحية وبأشكال حديثة وبناءة . لكنها حوارات على أية حال .
في سورية جوع للحوار . جوع قديم ومتراكم ، عمره من عمر الأحكام العرفية ، التي وسعت بيكار الممنوعات بحيث غطت دائرته الحياة العامة بكاملها أو تكاد . ويعيش السوريون بمناخات تصنعها كلمات من نوع ( تعليمات – توجيهات – أوامر- قرارات . . . ) ، تجعل التواصل بين أي فريقين باتجاه واحد ، من الرئيس إلى المرؤوس ومن الأعلى إلى الأسفل ومن السلطة إلى الرعية . فلا مكان للبحث والدراسة والنقاش ، وليس من موقع لإبداء الرأي أو الانتقاد أو التفاهم ، وبالتالي لا وجود للحوار . هناك دائماً متلق وصاحب قرار . ويتصرف الفرقاء خارج حدود الحسابات والمصالح المتبادلة ، دون أن يتركوا بينهم فسحة للتواصل ، أو أي شكل من أشكال المتابعة للسجال والمناقشة .
انعدم الحوار بين أطراف السلطة نفسها ، في الأحزاب المتحالفة بالجبهة وفي أجهزة الدولة ومؤسساتها . وصارت العلاقة بينها ميداناً لفرض الإرادات والمصالح والتوجهات بقوة القهر وحدها . وإلا كيف نفسر ضيق صدر السلطة بآراء رئيس هيئة تخطيط الدولة ، وهو أحد أركان الفريق المعني بالتنمية الشاملة في البلاد ، التي أبداها في محاضرة علمية على منبر متخصص ومسؤول ، وأدت إلى إعفائه من منصبه ؟ ! لسنا في معرض تقييم توجهات الرجل أو توجهات غيره ، إلا أن الإنصاف يقتضي أن تناقش توجهاته وآراؤه ، ويرد عليها علمياً وبالحجة المقنعة وفق الأصول ، قبل أن تتخذ القرارات بحقه .
وبين أطراف المعارضة نفسها أزمة حوار . ومن المؤكد أن لانعدام الحياة الديمقراطية في البلاد ، وعيشها الطويل في ظروف السرية والملاحقة دور في ذلك .فالانكفاء على الذات يبعد الصوت الآخر ويغيبه ، ويجعل الفريق الواحد يألف صوته الخاص ، ويأنس إلى عزفه المنفرد ويطرب له ، دون أن يكتشف حجم النشاز الوارد فيه . وهذا ما يقود السياسة ( أفراداً وجماعات ) إلى مستنقع العزلة والانتفاخ والعطالة .
أما الحوار بين السلطة والمعارضة فله في بلادنا شأن آخر بل شجون كثيرة . فلغة الحوار الوحيدة المتاحة هي لغة التحقيق والاستجواب والمنع والملاحقة والاعتقال ، إلى آخر العائلة غير المقدسة لأساليب القمع والاستبداد المعمم . وسياسة التمترس في خنادق متقابلة هي ما نجح النظام بفرضها على البلاد . وفرص الحوار النادرة التي حصلت لم تكن جادة وموفقة ، وبالتالي لم تعط أي نتائج .
كان منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي منبراً مناسباً للحوار بين القوى والفعاليات المختلفة بحضور السلطة ومشاركتها ، وهو الفرصة الوحيدة التي أتاحها العهد الجديد والحراك الديمقراطي بعد عام 2000 لإقامة حوار حول القضايا الوطنية الشاملة ، يمكن له أن يستولد فرصاً لحوارات أعمق وأشمل ، أكثر تنظيماً وأعظم جدوى ، تلبي شوق السوريين وحاجة سورية إلى حوار هادىء ومسؤول طال انتظاره . وبإغلاق المنتدى فوتت السلطة على البلاد فرصة لعقلنة الحوار والعلاقة بين الأطراف الوطنية على اختلاف مواقعها . ومنذ ذلك الوقت لم تغب لحظة واحدة أهمية الحوار للحياة العامة السورية . بل برز أكثر فأكثر كحاجة تفرضها الأزمة الشاملة واستمرارها وتفاقمها ، ومجريات السياسة الإقليمية والدولية من حولنا .
سورية بأشد الحاجة إلى الحوار مع نفسها أولاً ، نظراً لأهميتها على خريطة المنطقة ، وبعد أن اتضح لكل ذي عين بصيرة أن على السوريين وحدهم تقع مسؤولية النهوض بأعبائهم . كما تحتاج إلى حوار مخلص ومسؤول مع محيطها العربي ، لتأخذ مكانها الطبيعي في الإقليم . مثلما تحتاج إلى حوار مع المجتمع الدولي ، لتستعيد حضورها المعروف ودورها الفاعل في السياستين الإقليمية والدولية .
ليس من الحوار مهرب ، وليس للحوار بديل .
1 / 3 / 2010
هيئة التحرير