قد لا يكون مؤكداً أنّ رحيل عمار خالد بكداش (1954ـ2025) الأمين العام للحزب الشيوعي السوري ـ جناح أبيه خالد بكداش، أو قبله رحيل والدته وصال فرحة بكداش (1930ـ2013) الأمين العام لحزب زوجها خالد بكداش (1912ـ1995)؛ سوف يطوي تماماً، أو حتى جزئياً، ما تصحّ كثيراً تسميتها بـ«المدرسة البكداشية» في العالم العربي قاطبة، وليس على الساحتين السورية واللبنانية فقط. رحيل ثلاثة من كبار العائلة، الأب والزوجة والابن، قد يغلق سجلها السياسي والتنظيمي التوريثي في الحزب البكداشي، إلا إذا تنطح خالد عمار خالد بكداش، من مقرّ إقامة البيت الراهنة في اليونان، لوراثة أبيه في الأمانة العامة لحزب باتت قيادته مقتصرة على العائلة منذ 30 سنة، جَدّاً عن جَدّة عن أبٍ وربما… عن حفيد!
ذلك لأنّ البكداشية نهج وممارسة في آن معاً، اعتمدت إيديولوجياً على ولاء ستاليني أعمى في النظرية، يعتنق تحريفاً تسطيحياً لا يعبأ بأي حدّ أدنى من التغطية الفكرية لمقولات مثل «الثورة الوطنية الديمقراطية» و«طريق التطوّر اللارأسمالي»، في تسويغ الانضواء تحت سلطات استبدادية فاسدة على غرار نظام «الحركة التصحيحية». في الممارسة، ثمة عبودية خارجية «أممية» للمركز السوفييتي خلال عقود الحرب الباردة، وعبادة فرد داخلية تنظيمية تحاكي الطاعة العمياء، وليس الولاء الأقصى فقط، للأمين العام الذي «يهدي خطانا/ في طريق الخالدين» كما كان الشعار يقول. هكذا تأسست البكداشية منذ صعود خالد قوطرش/ بكداش إلى موقع الأمانة العامة، في سنة لا يزال التاريخ الفعلي عاجزاً عن تحديدها تماماً (1932؟ 1936؟ 1937؟)؛ مثلما عجزت وتعجز عن ذلك ذاكرة الأفراد، بالنظر إلى سياقات من هيولى سرّية شبه صوفية، وشبه مقدّسة، أُحيطت بتاريخ الأمين العام/ الفرد.
في عام 1933 سوف يحصل على عضوية تامة في الـ»كومنترن»، أو «الأممية الثالثة» حسب صيغتها الستالينية؛ وسيسافر إلى موسكو سرّاً عن طريق باريس، ويمكث هناك حتى عام 1936، حيث سيعتنق الستالينية بوصفها الماركسية الوحيدة التي ستتيح له تطبيق مبدأ «الانضباط الحديدي» عند عودته إلى سوريا. وفي محطته الباريسية سيسقط أسير حرج سياسي سوف يصِمُ خطّ الحزب الشيوعي السوري، ويجثم كالكابوس على سياساته الوطنية: تأييد «الجبهة الشعبية» الفرنسية، على حساب الشارع الوطني المطالب بالاستقلال؛ واعتماد الشعار القاتل: «إنّ تحرّر الطبقات الكادحة في سوريا مرتبط أشدّ الارتباط بمصير الطبقة العاملة في فرنسا»… نعم!
برهة مفصلية تالية كانت الموقف من قرار الأمم المتحدة، خريف 1947، الذي قضى بتقسيم فلسطين. فقبل عشرة أيام، فقط، سبقت عزم الاتحاد السوفييتي التصويت على القرار بالموافقة؛ كانت «صوت الشعب»، الصحيفة البيروتية الناطقة باسم الحزب، قد نشرت بياناً ينصّ، بالحرف، على «رفض التقسيم رفضاً باتاً». بعد تصويت السوفييت، انقلبت الحال إلى النقيض، وأخذ إعلام الحزب يجمّل قرار التقسيم ويحثّ الحكومات العربية على قبوله، فكانت النتيجة الفورية هي هبوط جماهيرية الحزب إلى مستوى غير مسبوق.
المدرسة البكداشية ليست بعيدة عن هذا الادقاع، السياسي والفكري واللغوي؛ بل هذه كانت حالها، فهي تتعاقب وتعيد إنتاج ذاتها
كذلك وقف بكداش ضدّ الوحدة السورية ـ المصرية، وتوجّب على قواعد الحزب أن تدفع ثمناً سياسياً وتنظيمياً باهظاً، وأمّا الأمين العام فقد غادر سوريا على عجل إلى موسكو ليترك المئات من كوادر الحزب ضحية أجهزة المباحث وعبد الحميد السراج. المفارقة أنّ السجون شهدت بذور حوار معمّق في صفوف كوادر الحزب، حول الخطّ والفكر والسياسة، وحول سلوك الأمين العام وعبادة الفرد والستالينية. وتلك الأجواء، داخل المعتقلات وخارجها، كانت حاضنة خصبة لأفكار أناس من أمثال رياض الترك (1930ـ2024) في السياسة والتنظيم، والياس مرقص وياسين الحافظ في النظرية. في المقابل كانت المآسي والمفارقات تتوالى بسرعة: تذويب فرج الله الحلو بالأسيد على أيدي مباحث السراج (بعض المسؤولية نجمت عن إصرار الأمين العام على استدعاء الحلو إلى دمشق دون تغطية أمنية كافية) وزيارة نيكيتا خروتشوف إلى مصر في ذروة قمع الشيوعيين هناك، وتأييد الانفصال، وغياب الأمين العام عن الساحة…
تلك المناخات، ومفاعيل هزيمة حزيران (يونيو) 1967، وصعود المقاومة الفلسطينية، سرعان ما أعطت أكُلها في مؤتمر الحزب الثالث (1969)؛ حين لم يجد بكداش مفرّاً من الانحناء أمام العاصفة والقبول بسلسلة إصلاحات، كان بينها اعتماد نظام داخلي جديد، وانتخاب لجنة مركزية (الأولى المنتخبة ديمقراطياً في تاريخ الحزب بأسره!) وصياغة مشروع برنامج سياسي. وبالتالي ما من أحد كان في وسعه إعادة الحزب إلى الوراء، ولم يكن من اليسير أن يتصالح النهج البكداشي مع هذه التطورات الداخلية العاصفة. وهكذا تكرّس الانقسام الأكبر في تاريخ الحزب، حين أصدر بكداش بيان نيسان (أبريل) 1972 الذي رسم الطلاق النهائي بين خطّه، وخطّ المجموعة التي ستُعرف باسم «المكتب السياسي».
فيما بعد، سوف يقود مراد يوسف انشقاقاً داخل المجموعة البكداشية، سنة 1982؛ ويقود يوسف فيصل انشقاقاً ثانياً، سنة 1986؛ ويتولى قدري جميل قيادة انشقاق ثالث، سنة 2003. من جانبها واصلت مجموعة «المكتب السياسي» تطوير الخطّ المعارض الذي بدأته في المؤتمرين الرابع والخامس، وفي سنة 2005 عقدت مؤتمرها السادس واختارت اسماً جديداً هو «حزب الشعب الديمقراطي السوري». ولم يكن عجيباً أن يقضي رياض الترك قرابة 18 سنة، بين 1980 و1998، في زنزانة مغلقة، بينها عشر سنوات لم ير فيها ضياء الشمس، وأن يُعتقل مجدداً في عهد الأسد الابن، وأن يرحل في منفاه الباريسي؛ بينما ظلّ حزب بكداش، ثمّ زوجته وابنه، حليفاً لنظام «الحركة التصحيحية»، فشارك في مهازل مجلس شعب النظام، وطُبعت جريدته في مطابع البعث الحكومية، وأطلق على الانتفاضة الشعبية لعام 2011 صفات «الإرهاب» و«المؤامرة» الهادفة إلى إسقاط نهج النظام «المناهض لمشاريع الهيمنة الإمبريالية والصهيونية».
ولأنّ البكداشية نهج وممارسة، لم يكن مفاجئاً أن تصدر أشدّ المراثي رثاثة، وانتهاجاً للغةٍ خشبية ظُنّ أنها انقرضت تماماً وافتُضح قاموسها الفضفاض الأجوف، عن أحزاب «شيوعية» هامشية ومعزولة عن بيئاتها أوّلاً، وعن أيّ مستوى حيوي ونقدي وتجديدي في الفكر الماركسي ـ اللينيني المعاصر. بيان الحزب الشيوعي الفلسطيني ـ مجموعة محمود سعادة يقول إنّ الراحل «تخرّج من مدرسة النضال الطبقي»، و«كان صوتاً صادحاً بالدفاع عن حقوق العمال والفلاحين»، وكان «أحد أبرز وجوه التضامن الأممي في المنطقة العربية»، و«أحد أكثر الرفاق الذين تصدوا وبعنف للتحريفية والانتهازية وفضحها أمام الطبقة العاملة».
اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأردني نعت «بعميق الحزن والأسى، القائد الشيوعي السوري والعربي والأممي البارز»، وبرحيله «يغيب طيف مناضل دافع بصلابة ومبدئية عن الطبقة العاملة ونظريتها الثورية الخالدة، وذاد عن مثل الاشتراكية وقيمها الأصيلة، وانبرى في جميع المواقع التي احتلها بجدارة، وخصوصا في موقع عضو مجلس الشعب السوري، للدفاع عن المصالح الجذرية للشعب السوري الشقيق، ولا سيما عماله وفلاحيه وسائر كادحيه وفئاته الشعبية».
وإذا كان الحزبان لم يتباكيا صراحة على نظام آل الأسد في سوريا، فقد ألمحت مضامين النعي عمار خالد بكداش إلى توصيفات لأوضاع سوريا الراهنة تتراوح بين الكذب الفاضح (أنّ السلطات الجديدة أعلنت عن «مكافأة مالية ضخمة لمن يقبض عليه»!) والعشوائية البائسة في اعتبار السلطة الانتقالية «جماعات إرهاب وتكفير»، وتلفيق شيوع «المدّ الرجعي والاضطهاد السياسي». وتلك العلائم هي الأحدث الدالة على أنّ المدرسة البكداشية ليست بعيدة عن هذا الادقاع، السياسي والفكري واللغوي؛ بل هذه كانت حالها، فهي تتعاقب وتعيد إنتاج ذاتها و… تتمدد!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
- القدس العربي