بحسب ابن خلدون (توفّي عام 1406)، تمرّ أيّ دولة بخمسة أطوار، من التأسيس والغلبة، إلى الاستبداد وإضعاف العصبيّة، وصولاً إلى الاستقرار، فالركود وتقليد الآباء والأجداد، ثمّ الانهيار. وهي تستغرق 120 سنة، في الحالة النموذجية، وقد تقصر أو تطول بحسب الظروف والعوامل.
لكن مع نشأة الدول الحديثة، والتطوّر الهائل في المواصلات والتواصلات، تسارعت نشأة الدول، كما يتسارع سقوطها، وقد يمتدّ عمرها مئات السنين. وربّما يكون الباحث اللبناني – البريطاني ألبرت حوراني (توفّي عام 1993)، من أفضل مَن طابق بين مفهوم العصبيّة لابن خلدون وحال الدولة العربية المعاصرة، في النصف الثاني من القرن العشرين، انطلاقاً من اجتماع الضدّين، وهما: استقرار الدولة، واضطراب المجتمع، في الوقت الذي كان متوقّعاً فيه إطاحة المجتمع بالدولة، لكن شهدنا العكس في تلك الآونة.
عوامل استقرار النّظام
يتوصّل حوراني إلى أنّ استقرار النظام السياسي العربي اعتمد على جُملة عوامل، وهي: قدرة المجموعة الحاكمة المتماسكة على ربط مصالحها بمصالح الأقوياء في المجتمع، والتعبير عن تحالف المصالح هذا في فكرة سياسية تجعل سلطة الحكّام شرعيّة في نظر المجتمع، أو على الأقلّ لدى جزء كبير منه، وامتلاك الحكومات وسائل للسيطرة ممّا لم يكن متاحاً في القرون الوسطى. السلطة الحديثة تُمارَس عبر السيطرة البيروقراطية المباشرة التي مدّت يد الحكومة إلى كلّ قرية وتقريباً إلى كلّ منزل أو خيمة، من خلال التجنيد الإجباري، والتعليم، والصحّة، والمؤسّسات العامّة، والقطاع العامّ للاقتصاد.
توقّع محور المقاومة وقوع اقتتال بين فصائل المعارضة عند وصول أحمد الشرع إلى قصر الشعب في دمشق
إلى ذلك، نجحت الجماعات الحاكمة في إنشاء عصبيّتها الخاصّة من أجل الاستحواذ على السلطة والحفاظ عليها، بواسطة آلة حكومية أكبر وأكثر تعقيداً. فعدد كبير من الرجال والنساء مرتبطون بها أو يعتمدون عليها، وتالياً هم على استعداد (على الأقلّ إلى حدّ ما) لمساعدة الحكم في الحفاظ على قوّته. باختصار، الدولة الحديثة أقوى بكثير من الدولة القديمة التي درسها ابن خلدون، واستشرف فيها صعودها وسقوطها.
الانهيار السّريع لدولة الأسد
تنطوي العصبيّة القَبَليّة على بذور فنائها في داخلها، وكذلك سطوة الدولة الحديثة التي ترسّخت بالتكنولوجيا المتقدّمة، تحوي في باطنها أدوات العطب والهلاك. فإذا كانت وسائل الإعلام والتربية وغيرها هي من الأدوات الفعّالة في صياغة السرديّة، وبناء الشرعيّة، وابتكار الأيديولوجية، فكذلك الإعلام، لا سيما الإعلام الجديد، من منصّات، ومواقع، وتطبيقات، كفيل بزعزعة أيّ حكومة مهما تكن متحكّمة بحياة المجتمع، إلّا إذا كانت هذه الحكومة ذات كفاية وعدالة، وقادرة على الحفاظ على شرعيّتها أو قسم كبير منها أمام الجمهور، وأن تتمكّن من ديمومة عصبيّتها.
في حالة النظام الأسديّ البائد، فإنّ صموده أكثر من 13 سنة، أمام ثورة الأكثريّة السنّية، كان بالدرجة الأولى بالدعم المباشر من دول كبرى وميليشيات معروفة بعصبيّتها الطائفية. وبعده كان الانحلال السريع خلال أقلّ من 12 يوماً أواخر العام الماضي، وهو ما طرح السؤال عن الانهيار المريع بعد الصمود الطويل.
لم يفقد هذا السؤال أهميّته حتّى اللحظة، باعتبار أنّ أعداء النظام الجديد ما يزالون يراهنون على سقوطه بالسرعة نفسها. ورهانهم هذا يرجع إلى تقديرهم المغلوط لأسباب الانهيار المفاجئ لدولة الأسد. فهم يلومون روسيا مثلاً على التواطؤ والتخاذل، ويتّهمون إسرائيل بهزّ الشجرة بعنف خلال حربها على محور المقاومة فسقطت الثمرة ناضجةً بيد أحمد الشرع.
الشرع تسلّم الحكم الانتقالي، فوصل بسرعة إلى طور الاستبداد، أي الانفراد بالحكم، من دون عصبيّته التي جاءت به
لكنّ التحليل الخلدونيّ للانهيار يُعطي إجابة مختلفة. فدولة الأسد حرقت المراحل بسرعة، بعد تفوّقها على المعارضة السورية بين عامَي 2019 و2020، فانتقلت دفعة واحدة إلى أطوار الاستبداد وإضعاف العصبيّة (استهداف آل مخلوف والقاعدة الاقتصادية للنظام)، والاستقرار الظاهريّ، ثمّ الركود السياسي والاقتصادي، فالانهيار.
بحسب الدراسة التي قدّمها الدكتور حبيب بدوي بعنوان: 12 يوماً من الانحلال The Twelve Days of Dissolution، والمنشورة في أواخر حزيران الماضي، فإنّ الانهيار السريع لدولة الأسد يعود إلى إمكانات العصر الرقميّ الراهن، مع القدرة على التواصل الأفقي بين الناس دون قدرة النظام على التحكّم بتدفّق المعلومات، فبات سهلاً انقلابُ المزاج الشعبي بسرعة فائقة، أثناء عمليّة “ردع العدوان”، من موالاة النظام أو موقف الحياد، إلى تأييد المعارضة، بعد ميل كفّة التوازن. وكان السقوط المفاجئ لمدينة حلب هو الصدمة في الوعي الجماهيري المترقّب، والمتذمّر من سياسات العصابة الحاكمة.
اهتراء سريع لدولة الشّرع؟
لكن ماذا عن دولة أحمد الشرع؟ وأين هي من عوامل الاهتراء السريع، بسبب التحدّيات الأمنيّة والاقتصاديّة الهائلة؟
1- توقّع محور المقاومة وقوع اقتتال بين فصائل المعارضة عند وصول أحمد الشرع إلى قصر الشعب في دمشق. وبُنيت هذه التوقّعات، على ما حدث في أفغانستان عقب الانسحاب السوفيتي عام 1989، من حرب أهليّة بين فصائل المجاهدين. لكنّ هؤلاء لم يدركوا أنّ الجولاني قائد هيئة تحرير الشام آنذاك، كان في معقله الأساسي في إدلب، قد أنجز تفوّقه على بقيّة الفصائل بسلسلة من المواجهات العسكرية، فاختفى بعض الفصائل وذاب، وبعضها الآخر انضمّ إلى “الهيئة”.
تنطوي العصبيّة القَبَليّة على بذور فنائها في داخلها، وكذلك سطوة الدولة الحديثة التي ترسّخت بالتكنولوجيا المتقدّمة
بهذا تحقّقت نظريّة ابن خلدون عن انتصار العصبيّة الأقوى في القبيلة على بقيّة العصبيّات، إذا اعتبرنا أنّ فصائل المعارضة ترادف العصبيّات القبلية آنذاك. ومَن هو في السلطة الآن يمثّل الجميع.
2- الشرع تسلّم الحكم الانتقالي، فوصل بسرعة إلى طور الاستبداد، أي الانفراد بالحكم، من دون عصبيّته التي جاءت به، علاوة على اعتماده على بعض بيروقراطيّي النظام السابق، ووضعه على المتطوّعين في الأمن والجيش شروطاً جعلت عدداً كبيراً من ثوّار الأمس خارج المعادلة، وهو ما أدّى إلى توسّع حالات الرفض والانتقاد في صفوف المعارضين السابقين، إضافة إلى السياسيّين المعارضين لنظام الأسد، الذين لم يعثروا على مكان لهم في النظام الجديد.
لكنّ كلّ هذه المواقف السلبية سرعان ما تبخّرت مع بروز خطر وجوديّ هو دعم إسرائيل لقوى انفصاليّة في سوريا. وكان قصف دمشق من الأحداث الحاسمة، وكذلك التطهير العرقي ضدّ عشائر العرب في السويداء، فاستدعى ذلك حراكاً عشائريّاً على مساحة العالم العربي، وربّما لم يكن له مثيل إلّا قبل قرن، عندما احتشدت القبائل مع الشريف حسين (توفّي عام 1931) ضدّ الدولة العثمانية، خلال الحرب العالمية الأولى.
أمّا عنصر القوّة الأخرى، إلى جانب العشائر، فهو السعي الصادق للرئيس الشرع إلى تحقيق التنمية الاقتصادية، وهو الذي سيوسّع دائرة التأييد الشعبي بمقدار سرعة تحقيق الوعود.
- أساس ميديا