لا يكفي أن يردّد ستيف ويتكوف، المبعوث الرئاسي الأميركي الخاصّ إلى الشرق الأوسط، أنّ ترامب “هو شرطيّ العالم حاليّاً، وهذا مهمّ لأنّه يجلب النظام والاستقرار”، بل علينا الإصغاء أيضاً إلى توم بارّاك، الذي يعلن أنّ “عصر التدخّلات الغربية في الشرق الأوسط قد انتهى، وأنّ المستقبل الجديد يقوم على الشراكات والدبلوماسية ومبدأ الاحترام المتبادل”.
صانع هذا المسار هو توم بارّاك، الذي يرتدي اليوم ثلاث قبّعات: سفير بلاده في تركيا، مبعوث الرئيس الأميركي إلى سوريا، ناشط فاعل في الملفّ اللبناني ومهندس الترتيبات الأمنيّة في جنوب لبنان وسوريا.
يقود بارّاك “إنهاء الصراعات في المنطقة”، بناءً على قرار أميركي جديد أعلنه ترامب من الرياض خلال زيارته الأخيرة للعاصمة السعوديّة
إنهاء الصّراعات
يقود بارّاك “إنهاء الصراعات في المنطقة”، بناءً على قرار أميركي جديد أعلنه ترامب من الرياض خلال زيارته الأخيرة للعاصمة السعوديّة. ومنذ ذلك الحين، انطلقت عجلة اللقاءات العلنيّة والسرّية: طاولات حوار سورية – إسرائيلية على خطّ باكو – باريس – أنقرة، بدعم وتشجيع خليجي. وهو ما يعني إجهاض المخطّط الإسرائيلي الهادف إلى تكريس إسرائيل “شرطيّة الإقليم”، دون أن نغفل هنا حجم التنسيق التركي – السعودي، الذي نجح في إقناع ترامب باستغلال اللحظة الإقليمية، وخصوصاً في ما يتّصل بالقضيّة الفلسطينية والوضعين السوري واللبناني.
بارّاك هو منسّق رئيسيّ مع الرياض وأنقرة في ملفّات سوريا ولبنان. وهو الذي يخاطب تل أبيب بلغة مختلفة، فإفساح المجال أمام الشرع ليس خياراً تكتيكيّاً، بل خطوة أميركية استراتيجيّة.
اختار ترامب صديقه توم بارّاك ليكون سفيره في تركيا. وبعد أسابيع قليلة، وسّع من صلاحيّاته ليكلّفه أيضاً بمهمّة المبعوث الخاصّ إلى سوريا. لا وجود لجاريد كوشنر هذه المرّة… وترامب “يلعبها صحّ”، كما يقول بارّاك نفسه.
بارّاك هو من قطع الطريق على محاولة إسرائيل استغلال ورقة الأكراد السوريين، معلناً أنّ “قسد” هي امتداد لحزب العمّال الكردستاني، وأنّ واشنطن تسعى إلى دمج هذا الكيان في الدولة السوريّة، لا إلى دعمه ككيان مستقلّ، وبارّاك هو نفسه الذي أعلن في أواخر أيّار المنصرم ومن دمشق أنّ الولايات المتّحدة تعتقد بإمكان تحقيق السلام بين سوريا وإسرائيل، مقترحاً أن يبدأ ذلك باتّفاق “عدم اعتداء” وترسيم الحدود بين البلدين.
ستميل واشنطن في نهاية الأمر إلى نقاشات وشراكات متعدّدة الأطراف مع تركيا والسعودية، ولن تعتمد على تل أبيب فقط كنقطة انطلاق أو مركز ثقل. فمع بارّاك، قد تخسر إسرائيل الكثير من فرصها التقليدية:
- “الوكالة الحصرية” التي تمتّعت بها لعقود، كنافذة توغّل للسياسة الأميركية في الإقليم.
- رفض واشنطن المناورة بورقة “قسد”، وقبولها بفكرة دمجها داخل الدولة السورية، يشكّلان نكسة لرؤية إسرائيل في تفتيت سوريا.
- الدفع الأميركي باتّجاه تعزيز دور النظام في دمشق، وهو ما يُناقض تماماً خيار نتنياهو الذي يرفض الاعتراف بالنظام السوري الجديد.
ينسج توم بارّاك خيوط حراك أميركي جديد يتجاوز الثوابت الكلاسيكية التي حكمت سياسة واشنطن في الشرق الأوسط لعقود
نظام إقليميّ مختلف
ما تخشاه إسرائيل أكثر هو “التهدئة الإقليمية الشاملة”، لأنّها تنتزع من يدها ورقة “أمن أميركا في الشرق الأوسط يمرّ عبر أمن إسرائيل”.
التنسيق الثلاثي المتصاعد على خطّ واشنطن – أنقرة – الرياض، يشير إلى أنّ ثمّة خطوات ومبادرات تُناقش خارج القنوات الإسرائيلية التقليدية. وهذا بحدّ ذاته بداية تحوّل في المعادلة.
لا يعكس كلّ ذلك تبدّلاً في أدوات واشنطن فقط، بل يشير إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى ولادة نواة “تكتّل استقرار إقليمي جديد”، يجمع الرياض وأنقرة وباريس وواشنطن، ويتقاطع في بعض محاوره مع دمشق وبيروت، دون أن يكون لإسرائيل موقع القيادة فيه كما في السابق.
ينسج توم بارّاك خيوط حراك أميركي جديد يتجاوز الثوابت الكلاسيكية التي حكمت سياسة واشنطن في الشرق الأوسط لعقود.
قد لا يقود هذا الحراك ترامب إلى “نوبل للسلام”، لكنّه يضعه على طريق هندسة نظام إقليمي مختلف، قوامه الشراكة لا الوصاية، والتوازن لا الانحياز، فهل يفرّط بمثل هذه الفرصة؟
هل يقترب اليوم الذي سيطرح فيه نتنياهو السؤال المقلق: ماذا لو سحبت واشنطن من يد إسرائيل ورقة “رأس الحربة”، خصوصاً إذا ما اختارت تقاسم أوراق التهدئة بشراكة حلفاء أكثر انسجاماً مع المزاج الإقليمي المتغيّر؟
- أساس ميديا