تُلقي تركيا بثقلها على الساحة السورية من النافذة الكردية على وجه التحديد. فأنقرة التي لطالما شكّل الملف الكردي هاجساً بالنسبة إليها، تجد اليوم فرصة مواتية من أجل إغلاقه كلياً، خصوصاً بعد إعلان حزب “العمال الكردستاني”، الذي كان رأس حربة القتال ضدها، عن حل نفسه والتخلي عن السلاح.
تحديات
لكن ثمة تحديات كثيرة تحول دون تحقيق تركيا لهدفها، ذلك أن الأحداث التي شهدتها الساحة السورية أخيراً في السويداء، وكانت سبقتها أحداث مماثلة في الساحل السوري، تدخل اليوم في صميم الحسابات الكردية، و”تفرمل” اندفاعة الأكراد نحو الإندماج مع السلطة السورية الجديدة. وعليه، فإن الفصائل الكردية تعيد النظر في إمكانية تسليم السلاح من دون الحصول على ضمانات حقيقية وفعلية بأن الأمور لن تنقلب عليها، ولن تصبح ضحية بأن تتحول مناطقها إلى ساحة للقتل والمجازر بطريقة مشابهة لما جرى في الساحل السوري والسويداء.
يقف الأكراد اليوم أمام مفترق طرق، إذ عليهم التعامل مع أنقرة من جهة، والسلطة السورية الجديدة من جهة أخرى، وفي الحالتين تقول تجربتهم التاريخية إنه لا أمن ولا أمان سواء مع تركيا أو مع السلطة السورية الجديدة المشكّلة أصلاً من فصائل قاتلت الأكراد في ما مضى، لكن رغم ذلك فإن الحسابات الكردية تأخذ بالمعطيات المستجدة، من دون أن تتخلى عن البحث في إمكانية طي صفحات الماضي وتقديم تنازلات “جوهرية” تؤمن مظلة الحماية للشعب الكردي في المنطقة، حتى لو كان ذلك عبر الاندماج “المحسوب” مع الحكومة السورية الجديدة بموجب اتفاق آذار/ مارس. لكن هذا الخيار دونه قلق عبّر عنه قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي، في تصريحاته الإعلامية الأخيرة، من دون أن يغفل بأن وجهة النظر الكردية بما يتعلق ببناء الدولة السورية، تقوم أساساً على اللامركزية، لكنه فصل المؤسسات الخدمية عن العسكرية باعتبار أن الدولة سيكون لها جيش واحد لا مجموعة من الجيوش.
هل ينقلب الأكراد على اتفاق آذار؟
حتى اليوم، لا يبدو أن الأكراد في وارد الانقلاب على اتفاق آذار/ مارس، وإن كان عبدي تحدّث عن بطء في التنفيذ لأسباب تتعلق بطرفي الاتفاق، إلا أن الأساس هو ما يخص الأكراد المسكونين بهاجس “الضمانات المستقبلية” خصوصاً بعد أحداث الساحل والسويداء.
إذاً ما هو واضح أن المسألة تتعلق بالأكراد بالدرجة الأولى، لكن على الرغم من أن الكرة في ملعبهم، إلا أن ذلك لا يلغي أهمية دور سلطة دمشق، فهي مطالبة بأن تقوم بتسوية ملفي الساحل والسويداء نهائياً انطلاقاً من طريقة معالجة التداعيات وتحمل المسؤوليات، وبهذا يمكن أن توجه رسالة للأكراد بأن الدولة هي المظلة التي تؤمن الحماية لكل مكوناتها. لكن إلى اليوم، لا يبدو أن تلك السلطة، ووفقاً لمجرى الأحداث، تمتلك قرارها المستقل سواء على صعيد ترتيب أمور بيت الحكم الداخلي، إذ تتعرض دمشق لضغوط أميركية وغربية، تتمثل بالدعوات المتواصلة للرئيس أحمد الشرع إلى مراعاة المكونات السورية وتأمين الحماية لها وإشراكها في الحكم، وفي الوقت نفسه تتعرض حكومة الشرع لضغوط تركية في ما يتعلق بالملف الكردي، ذلك أن أنقرة تدرك جيداً أن تسوية القضية الكردية لم يعد ممكناً عبر الحرب، وباتت تنظر إلى الأمر من نافذة الدبلوماسية، خصوصاً بعد نجاحها في إقناع زعيم حزب “العمال الكردستاني” مصطفى أوجلان بحل حزبه وإلقاء السلاح والتخلي عن فكرة القتال، وقد شكّل ذلك لها نقطة قوة تريد استغلالها لاستنساخ النموذج مع بقية الفصائل الكردية المسلحة تحديداً تلك التي تتشكل منها “قسد”. وفي هذا كان عبدي واضحاً حين أشار إلى أنه لدى “قسد” قنوات مفتوحة مع تركيا “باستمرار وحتى الآن الأمور تتجه نحو منحىً إيجابي، على الأقل للتنسيق للهدنة واستمرار وقف إطلاق النار في ما بيننا”.
حسم مؤجل؟
في المحصلة، يبقى حسم الملف الكردي رهينة الحوار بين الأكراد والأتراك، ففي حين يبحث الأكراد عن “أمان مفروض بضمانات مستقبلية”، تندرج الحسابات التركية في إطار تفكيك الصراع الكردي- التركي، عبر إخراج الملف من الإطار المسلح وإدخاله في المسارات السياسية، وهنا يصبح السؤال ضرورياً حول مدى إمكانية نجاح أنقرة في مساعيها، خصوصاً أن الأكراد ليسوا كتلة متجانسة، وهنا فإن ما قد ينسحب على حزب العمال قد لا يجد الصدى المطلوب لدى فصائل كردية أخرى وعلى رأسها الفصائل المكونة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والمسكون بعضها، وفق عبدي، بهاجس القلق، وعليه يمكن القول إن الملف الكردي قد يبقى مؤجلاً إلى حين، وأن حسمه ليس بيد الأكراد والسلطة السورية وحدهما، بل بحسابات إقليمية ودولية متشعبة ومعقدة..
- المدن