تعيش سورية اليوم في حالة انتقال غير مكتمل؛ ما بعد الدولة، من دون أن تدخل فعلياً في الدولة البديلة. سلطة مفككة، وفصائل مسلّحة تقاسم الأرض والنفوذ، وهيكل عسكري غائب، وسلطة تنفيذية عاجزة، وواقع سياسي هشّ يتغذّى من التدخّلات الإقليمية والدولية. ضمن هذا التداخل بين الانكفاء الرسمي والتشظّي المحلّي، تتشكّل معالم فوضى متحرّكة لا يمكن احتواؤها بخطاب سياسي تقليدي، ولا إخضاعها لردع مركزي غائب من المعادلة. والسؤال الجوهري هنا: أين تقف بنية الجيش السوري الجديد؟ هل أُعلنت تشكيلات واضحة أو عقيدة عسكرية جامعة تنتمي إلى كلّ المدن السورية؟ كيف يمكن الوصول إلى معلومات موثوقة حول تركيبة القيادات العسكرية، وسيرهم المهنية، وتجاربهم الميدانية؟ ما نعرفه، حتى اللحظة، أن القوات المسلّحة السابقة حُلّت في سياق تفكيك المنظومة الأمنية السياسية القديمة، لكنّها لم تُستبدَل بشكل حقيقي بقوة جديدة منظمة، مدنية أو عسكرية، يمكن الاستناد إليها في تنظيم القوة وضبط الأمن بشكل تام.
من دون إعادة تأهيل البنى وإدارة المجتمعات ذاتياً بآليات عادلة، سيبقى المشهد محكوماً بمنطق التوتر والهشاشة
الواقع أن فصائل كثيرة كانت فاعلة في معارك الثورة، وخاضت مواجهات عنيفة ضدّ جيش النظام، باتت اليوم على الأرض في موقع السيطرة الجزئية، من دون امتلاك تصوّر واضح عن وظيفتها أو دورها في الدولة المقبلة. فصائل تفتقر إلى قيادة موحّدة، أو إلى مرجعية مؤسّسية، وتعاني تداخلاتٍ مناطقيةً وطائفية وأيديولوجية، الأمر الذي ينعكس مباشرة في الميدان بصدامات داخلية، وانهيار في فكرة الانضباط، وتعدّد في مراكز القرار. في الساحل السوري، على سبيل المثال، تشير تقارير ميدانية موثّقة إلى استمرار عمليات القتل في الحواجز المحلّية، ووقوع اعتقالات عشوائية على خلفية خصومات شخصية أو وشايات داخلية. هذه الحوادث تُسلّط الضوء على تآكل ما تبقّى من سلطة القانون، وتؤشّر إلى انزلاق الأمن من يد الدولة نحو سلطات ميدانية تُمارس القوة من دون محاسبة، وتُنتج عنفاً غير قابل للاحتواء. الفوضى التي نشأت أثراً جانبياً لانهيار النظام، باتت اليوم بنية قائمة في حدّ ذاتها. والأخطر أن هذه الفوضى، في غياب رؤية وطنية عادلة وموحّدة، آخذة بالترسّخ بوصفها الشكل الوحيد الممكن لتنظيم الحياة العامّة.
ويتجلّى الانهيار المؤسّسي في طريقة تعاطي الجهات المحلّية الجديدة مع الملفّات الخدمية والأمنية. في عدة مناطق، استنسخت أنماط الحوكمة التي سادت في ظلّ النظام السابق، لكن من دون إطار قانوني ضابط أو مركز تنظيمي جامع. مجموعات محلّية (عشائرية أو فصائلية) تولّت إدارة مناطق نفوذها وفقاً لمعايير متغيّرة، متأرجحة بين الجباية والتحكيم الميداني وفرض سلطات أمر واقع على السكّان. في بانياس واللاذقية، وثّقت تقارير ميدانية حالات استهداف مباشر لموظّفين حكوميين سابقين أو لمواطنين من دون تهم مُعلَنة، بما يعكس غلبة الطابع الشخصي أو الانتقامي في إجراءاتٍ كثيرة. التراجع لم يكن على مستوى الممارسة فقط، بل طاول المفهوم ذاته: لم يعد واضحاً من هي “الدولة”، ولا من يمثّلها، ولا ما الذي يعنيه الانتماء القانوني في ظلّ تعدّد المرجعيات. وفي هذا السياق، يبرز تحدٍّ بنيوي أعمق: هشاشة الضمانات التي تحيط بالمكوّنات غير السُّنّية في البلاد. سواء في أوساط المسيحيين، أو العلويين، أو الإسماعيليين، هناك شعور متزايد بالتهميش أو التعرّض لمخاطر متكرّرة، خصوصاً في ظلّ صعود فصائل تحمل تصوّرات أحادية للهُويَّة الوطنية. في سهل الغاب، وريف حمص، وأجزاء من ريف حماة، وثّقت مصادر ميدانية، تواصل معها كاتب هذه السطور، حوادث تنطوي على تهديدات مباشرة بالتهجير أو المنع من العودة، خصوصاً ضدّ عائلات علوية. حالات القتل المتعمّد، كما في قرى “معان” و “شلوح” و “كفر عقيد”، تعكس بيئة أمنية شديدة الهشاشة، مع غياب التسويات الرسمية وفقدان أيّ ردع فعّال. في ظلّ هذا المناخ، تتحوّل العودة إلى الأرض إلى مخاطرة يومية، وتغدو الحماية الذاتية بديلاً هشّاً من الدولة.
وتُعدُّ السويداء، بما تملكه من خصوصية ديمغرافية وتاريخية، نموذجاً مركّباً اليوم لحالة الفوضى المنظّمة. فمنذ سقوط النظام، تشكّل في الجبل مشهد مزدوج: فصائل محلّية تتبنّى خطاب الحماية والكرامة، وأخرى تميل إلى خطاب استقلالي تغذّيه مخاوف التصفية أو التهميش. هذا التباين أضعف المرجعيات المجتمعية التقليدية، وفتح المجال لتحوّل بعض الفصائل سلطات أمر واقع، تدير الشؤون اليومية وتفرض الأمن بمعاييرها الخاصّة، من دون ارتباط فعلي بمؤسّسات الدولة أو منظومتها القانونية. عندما قرّرت الحكومة الانتقالية تنفيذ تدخّل عسكري في المحافظة أخيراً، لم يكن الإخفاق نتيجة تفوّق ميداني للفصائل، بقدر ما كان تعبيراً عن سوء فهم لطبيعة البنية الداخلية في الجبل، وافتقاراً إلى رؤية سياسية تستوعب التوترات المتراكمة. التدخّل عزّز الاصطفافات داخل المجتمع المحلّي، وأعاد إنتاج ما يشبه “الأميريات المصغّرة” في عدد من القرى والبلدات، إذ تُمارس السلطة بوصفها أمراً واقعاً، وتُدار الحماية بديلاً اضطرارياً من مؤسّسات الدولة الغائبة.
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل الحضور الإسرائيلي المتصاعد في الجنوب السوري. خلال الأشهر الماضية، لوحظ تنامي النشاط الاستخباري لتل أبيب، ولا سيّما في السويداء، بما في ذلك تقديم إشارات حماية غير مباشرة لبعض الفصائل. لا يتّخذ هذا الحضور شكل احتلال عسكري مباشر، بل يُدار نوعاً من ضبط الهشاشة: إبقاء الجنوب في حالة استقرار منخفض، يمكن التحكّم في إيقاعه وتوازناته من دون أن يتجاوز خطوط المصالح الإسرائيلية. أمّا في مناطق مثل ريف حماة وسهل الغاب، فيتكرّر نمط الصراع على الأرض والهُويَّة والمُلكية. تُرصد حالات تهجير ممنهج، وتغييرات في التركيبة السكّانية، وظهور رايات فصائلية في أماكن كانت تحمل طابعاً رسمياً. عمليات الاغتيال التي طاولت وجهاء محلّيين في قرى مثل “زغرين” و “نوى” تأتي ضمن هذا السياق أدواتٍ لمنع أيّ محاولة لإعادة بناء السلم الأهلي خارج منطق الفصائل، وإبقاء المجتمعات المحلّية تحت الضغط والتفكّك.
تجاوز ما يعيشه السوريون اليوم مفهوم الانتقال السياسي ليقترب من مشهد تفتيت اجتماعي متسارع
يمكن القول إن الفوضى التي تتمدّد في سورية تجاوزت أن تكون حالةً طارئةً ناتجة من سقوط النظام السابق، إنما هي نتيجة مباشرة لغياب الرؤية، وتآكل السيطرة، وغياب مشروع سياسي قادر على احتواء الواقع الجديد. الحكومة الانتقالية (حتى الآن) تبدو محكومة بردات الأفعال أكثر من امتلاكها تصوّراً شاملاً لكيفية إعادة بناء الدولة، أو ترميم العقد الوطني على أسس التمثيل والتوزيع العادل للسلطة. الاعتماد على أدوات الردع الأمنية، أو التفاوض مع مراكز القوة المحلّية، لا يُنتج شرعيةً، ويعمّق الانقسام ويُعيد إنتاج مبدأ الغلبة، هذه المرّة بأسماء جديدة. ومن دون إعادة تأهيل البنى المحلّية، وتمكين المجتمعات من إدارة شؤونها بآليات عادلة، سيبقى المشهد محكوماً بمنطق التوتر والهشاشة. في هذا السياق، يظهر ارتباك أخلاقي متزايد في الخطاب العام، فيُبرّر العنف بوصفه ضرورةً سياسيةً أو حمايةً وقائيةً، وتُمنح الفصائل حصانةً سلوكيةً تُقصي القانون لصالح التأويل، وتفتح المجال أمام العدمية، والانتقام، والتسلّط.
يتجاوز ما يعيشه السوريون اليوم مفهوم الانتقال السياسي، ويقترب أكثر من مشهد تفتيت اجتماعي متسارع، لا يمتلك أحد أدوات لجمه أو احتوائه. لقد ذاب الانتماء الوطني في هُويَّات فرعية قلقة، وغاب الأمن الفردي حتى في مناطقه المفترضة، وأصبحت المواطنة محكومة بالموقع والانتماء لا بالقانون. وأمام هذا الانحدار، تبدو الحاجة ملحّة إلى تدخّل حاسم، يعيد ترتيب الأولويات، ويستند إلى لغة الحوار لا منطق العنف الثوري: إعادة صياغة العلاقة بين المركز والأطراف على أساس التوازن لا التبعية، وإعادة بناء المؤسّسة الأمنية على عقيدة وطنية جامعة لا على إرث الولاء. وكذلك، استعادة المعنى الأخلاقي للسلطة، وتحريرها من الاستثناءات والتبريرات. صياغة سردية وطنية جديدة تعرّف الانتماء بوصفه مسؤولية مدنية لا امتيازاً سياسياً. فإن لم تُنجز هذه المهام بشكل متّسق وسريع، فإن البلاد ذاهبة على الأرجح إلى نمط من “التعايش القلق”، تُدار فيه الجغرافيا السياسية بتوازنات السلاح لا بعقود الدولة، ويُقيَّم فيه المواطن بحسب قربه من مراكز القوة لا بحقّه في الحياة. وما من توازن هشّ إلا وهو ينتظر شرارةً واحدةً… لتنهار تحته كلّ حسابات التأجيل، كاشفةً عن تلك الصعوبة العميقة في إيقاف الفوضى السورية الآن.
- العربي الجديد