تشكّل البنية التحتية الحرجة العمود الفقري لأيّ دولة، فهي الأساس الذي يقوم عليه الأمن الاقتصادي والاجتماعي، من شبكات الكهرباء والمياه إلى النقل والاتصالات. في سورية، التي تكاد بنيتها التحتية أن تكون مدمّرةً بالكامل بسبب سنوات الحرب، لا يقتصر التحدّي على إعادة بناء المنشآت المادّية فحسب، بل يتعدّاه إلى استعادة الثقة بين مكوّنات المجتمع المنقسمة طائفياً، فمن دون ثقة حقيقية بين الأطراف المختلفة، تصبح مشاريع إعادة الإعمار مجرّد واجهاتٍ تفتقد روح التعاون والالتزام المشترك، ما يُعقّد فرص بناء دولة مستقرة ومستدامة.
في ظلّ هذا الواقع، لم تعد البنية التحتية مجرّد شبكات وخطوط أنابيب، بل هي اختبار حقيقي لإرادة السوريين في تجاوز الانقسام وإعادة بناء وطن موحّد، تُبنى أركانه على الثقة والشفافية، لا على المصالح الضيّقة والتناحر السياسي. هل يمكن إعادة بناء كهرباء سورية قبل أن نعيد بناء الثقة بين الطوائف؟ وهل من معنى لبناء المستشفيات من دون أن نداوي أولاً المرض الأكبر: الانقسام؟ وهل ينفع التعليم إن كانت الكتب تُعيد إنتاج سردية الخوف والتخوين والطائفية؟
لم تعد البنية التحتية مجرّد شبكات وخطوط أنابيب، بل هي اختبار حقيقي لإرادة السوريين في تجاوز الانقسام وإعادة بناء وطن موحّد
الدول، تماماً على غرار البشر، تحتاج إلى قلب نابض. تحتاج إلى الثقة، هذه الكلمة البسيطة، التي تحوّلت في سورية عملةً نادرةً: الثقة في الدولة، في القانون، في المؤسّسات، في الجار، وفي الآخر المختلف. كُتب كثيراً عن الخراب العمراني في سورية، عن حمص التي دمّرها النظام، وعن حلب التي نزفت نصفها الشرقي، وعن مجازر الساحل، وعن أحداث السويداء ومجازرها، لكن قليلاً ما نتحدّث عن الخراب غير المرئي: انكسار العقد الاجتماعي، وتحطّم الرابط بين المواطن والمكان، والمواطن والمواطن. إن إعادة إعمار سورية يجب ألا تبدأ من وضع حجر أساس لمستشفى، أو توقيع عقد مرفأ، أو بناء مطار جديد، أو تشييد مدينة تجارية، بل من تأسيس الثقة، من إحياء مؤسّسات الدولة كائناتٍ حيّةً، لا هياكل جامدة، لأن المؤسّسة لا تساوي شيئاً إن لم يصدق الناس أنها وجدت لخدمتهم، لا لتجريدهم من الكرامة والأمان.
ليست البنية التحتية مجرّد أنابيب تنقل الماء، أو أسلاك توصل الكهرباء، بل هي أيضاً ما ينقل المعنى، ويُوصل الإحساس بالأمان والانتماء. إنها شبكة الحياة التي تجعل الدولة ممكنة. في الحالة السورية، كان كلّ شيء هشّاً ومؤقّتاً: الكهرباء مقطوعة، الحكومة معطّلة، التوافقات سطحية، و”الحقيقة” نفسها معلّقة. لم تكن هناك دولة فعلية، بل مجرّد ظلّ كثيف لنظام أوهن من بيت العنكبوت. وحين سقط ذلك النظام، لم يتهاوَ معه هيكل متماسك، بل انكشفت هوّة عميقة من العدم المؤسّسي، فلا بنيةَ قائمةً ولا ثقةَ راسخةً. لذلك، على السوريين اليوم ألا ينشغلوا بعدد الأبنية التي يجب أن تُرمَّم، بل بعدد العلاقات التي يجب أن تُبنى، وعدد الجسور التي يجب أن تمدّ بين المواطنين قبل أن تُمدَّ بين المدن. فالتعليم، والقضاء، والإعلام ليست قطاعات فنّية، تُدار بلغة الأرقام والموازنات، هي بنىً تحتية حرجة لا تقل أهميةً عن شبكات المياه والطرق. القاضي الذي لا يحكم بعدل كمحوّل كهرباء محترق يُرسل شرراً بدل أن ينير، والمعلّم الذي يزرع التبعية والطائفية في العقول مثل أنبوب ماء ملوّث، ينقل المرض بدلاً من الحياة، والصحافي والإعلامي الذي يكتب بأوامر (لا بضمير) كخطّ نقل منتهي الصلاحية، ينقل الأخبار كما ينقل الخراب. لا جدوى من مطار جديد إن كان يؤدّي إلى سجن، ولا من طريق سريع إذا كان يقود إلى تبعية أخرى.
في سورية أزمة ثقة شاملة: في السلطة، في القضاء، في الجيوش، في الإعلام، بل في مفهوم “الحقيقة” ذاته
في هذا كلّه، ليست الحالة السورية استثناءً، بل مرآة مكسورة تعكس شظايا واقع عربي مأزوم. فأيّ بلد عربي لم يخسر بنيته التحتية المعنوية قبل المادّية؟ من بغداد التي ذُبحت بالاجتياح، إلى بيروت التي تآكلت من الداخل، ومن صنعاء الممزّقة إلى الخرطوم الغارقة في دمائها، تتكرّر المأساة ذاتها بأشكال مختلفة. جميعنا في النهاية نعيش أزمة ثقة شاملة: في السلطة، في القضاء، في الجيوش، في الإعلام، بل في مفهوم “الحقيقة” ذاته.
من هنا، ليس السؤال السوري سؤالاً محلّياً، بل عربياً، ووجودياً بامتياز: كيف يُعاد بناء الدولة بعد موتها؟ بأيّ خطاب يمكن أن يُستعاد المعنى؟ بأيّ عقلية تُستولد شرعية جديدة؟ وبأيّ ذاكرة نكتب المستقبل حين تكون كلّ الذاكرات ملوّثة بالخراب والخذلان؟
- العربي الجديد