طرح الزميل أيمن جزيني في “أساس” قبل أيام سؤالاً جعله عنواناً لمقالته “اللامركزية في لبنان وسوريا: هل تكون الحلّ؟”. تساؤل مصيري في لحظة حاسمة تمرّ بها منطقة الشرق الأوسط مع الكلام عن تبادل الأراضي كحلّ للأزمات.
فتح الزميل جزيني “كوة” في جدار المخاوف من التقسيم في دول المنطقة من العراق، مروراً بسوريا وانتهاء بلبنان. “كوة” تتحدث عن لامركزية إدارية تدير التفاصيل اليومية للناس بحماية مركزية ثلاثية قوية تشمل السياسة الخارجية والسياسة المالية والسياسة الأمنية.
في الوقت الذي يسعى فيه لبنان إلى استعادة مبدأ الدولة الواحدة وحصريّة السلاح، دخلت سوريا المرحلة الثانية من الصعود المخنوق نحو الدولة، بعد عقد ونصف من سقوطها الحرّ في حرب النظام البائد على شعبها. هي أمام خطر دخول مجهوليّة الضمّ والفرز الجديدة، والمواجهة من أجل الدولة الموحّدة. يستمرّ العراق في معركته النضالية لبلوغ “عراق البلد الواحد”. تبرز بشكل واضح ثلاثة صراعات على النفوذ والحدود تستهدف اتفاقية سايكس – بيكو وخرائطها وكياناتها المقسّمة. فما هي هذه المخطّطات والصراعات؟ وهل نحن على أعتاب تشكيل شرق أوسط مختلف؟ أم الذهاب إلى اللامركزية الإدارية مع الحفاظ على المركزية الثلاثية الضامنة لوحدة الكيانات الموجودة؟
برزت ثلاثة أنواع من الصراعات، وهي:
– الصراع الوطني: من أجل تكريس الدول التعدّدية القومية الوطنية الموحّدة، ضمن المحافظة على حدود سايكس – بيكو، ومن دون أيّ خسارة.
– الصراع الإسرائيلي: يعمل على إحداث تغييرات مكانيّة الخطوط الفاصلة وزمانيّة الديمغرافيا. ذلك عبر تهشيم الموجود وتقسيم المقسّم بحجّة انتهاء الصلاحيّة، وعدميّة تناسبه مع ظروف الأمر الواقع، من حيث القوّة وتكتيك المصالح والأيديولوجية. هذا التغيير قد يكون مع نماذج فدرالية قاسية تطيّر مفهوم الدولة الوطنية وتبدّد نسقيّة الكيانات الحالية من أجل الأفكار الانعزالية الصغيرة المدى، مع معايير غير متجانسة ومغذّية للمناكفات بين المكوّنات.
لا تقف ممارسة الحكم على الأفكار الجيوبوليتيكية فقط. بل تتعدّاها إلى ما هو أبعد. تستند إلى نزاعات النفوذ وصراعات الديمغرافيا
– الصراع الأميركيّ- الأوروبيّ: يتمحور حول نقل مركزية حكم سايكس- بيكو من الثقل الأوروبي إلى الأميركي. تريد واشنطن أن تكون المظلّة الضامنة لمواطن نفوذ اتّفاق توزيع التركة، لأنّ أميركا لم تكن موجودة إلى الطاولة زمن الاتّفاق. لكن من دون اللعب على وتر البلع للمساحات والتوزيع الصريح للأراضي، حيث قد يصار إلى الموافقة على أنظمة لامركزيّات مريحة.
صراعات داخل الكيان الإسرائيليّ
يتجلّى صراع داخل الكيان المحتلّ بين جهات الظلّ الثلاث الحاكمة، الإسرائيليين والعبرانيين والتلموديين. بدأ ذلك بعد غزوة “حماس” في السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل. قتل الحمساويون الإسرائيليين. تركهم التلموديون في أولى ساعات المعركة. قدّموا عدداً كبيراً من الإسرائيليين “قرابين”، وتسلّموا الزمام. ثمّ قادوا المعركة بتعاليمهم التوراتيّة المزعومة. وارتكبوا أبشع الجرائم، بعدما ابتدعوا ذريعة حفظ أمن وأمان الكيان. فتح هذا الأمر الباب أمام اللعب بالخرائط وتبيان الموروثات النائمة من مخطّطاتهم، للانقلاب على تقسيم سايكس- بيكو وإعادة تشريحه من جديد في مصلحة إسرائيل الكبرى.
ظهرت دوافعهم التقسيميّة والتفتيتيّة عبر تنمية الحركات الراديكالية الرافضة لمبدأ الدولة الوطنية والقومية. تركّز المشروع على شعور أقلويّة بعض الناس الفرديّة، والضعيفة الرؤية عرقيّاً ومذهبيّاً، والناقمة بالأصل على سايكس- بيكو بحجّة عدم إنصافه لها.
صاغ سايكس- بيكو محيط الشرق الأوسط، وضبط مجاله من العراق إلى سوريا ولبنان. تتجلّى بوضوح حالة اللاستقرار في هذا الثلاثي من جديد. تتزامن مع شكل من عدم التوازن والترنّح نحو تهشيم الحدود وإسقاط الصيغ المركزيّة للدول، عبر تجزئة المشطور وإبراز الكيانات المذهبية المشتركة في الدول والعابرة للحدود الوطنية، والاستفادة السلبية منها بشكل معارض لصفة الدولة الوطنية.
لا تقف ممارسة الحكم على الأفكار الجيوبوليتيكية فقط. بل تتعدّاها إلى ما هو أبعد. تستند إلى نزاعات النفوذ وصراعات الديمغرافيا، وإلى محدّدات مختلفة مثل المذهبيّات والعرقيّات والقوميّات.
صاغ سايكس- بيكو محيط الشرق الأوسط، وضبط مجاله من العراق إلى سوريا ولبنان
المسودات العتيقة
تغلب على الرغبات التشريحية صفة الجهل في التاريخ، والمغامرات العبثية والتحدّيات المنحرفة. وتتجلّى استحالة متسرّعة في تركيب الدويلات المنفصلة، عبر مسوّدات قديمة مختلفة من مسوّدة ينون إلى ممرّ داوود ودرع شعيب. فما هي هذه المخطّطات؟
– مسوّدة ينون: تهدف إلى تفتيت الكيانات الوطنية الشرعية الموحّدة المتحاذية مع الكيان الإسرائيلي إلى دويلات عرقية ومذهبية.
– ممرّ داوود: يرمي إلى الوصول إلى مياه الفرات، وخلق كوريدور يجفّف الحركة السياسية والاقتصادية السوريّة ويحصرها من ناحية الكيان الإسرائيلي.
– درع شعيب: يمتدّ هذا المخطّط من سوريا إلى الأردن، من أجل ولادة منطقة منزوعة السلاح ومؤلّفة من أربع طبقات متحاذية مع الكيان الإسرائيلي.
ممرّ داوود مدخل تغيير ديمغرافيّ
تمّ اختيار ممرّ داوود بكلّ عناية، فهو ليس عبثيّاً. خُطّط له بكلّ دراية وتركيز. لن يعبر سوريا، وإنّما سيحتوي على الدويلتين المزمع إنشاؤهما اللتين ستُقتطعان من سوريا: واحدة على قناعة عرقية وهي الكردية، والثانية درزية على أساس مذهبي وطائفي.
يبتر هذا الممرّ الدولة السوريّة. يغيّر في الديمغرافيا. ويؤسّس لتقسيم بقيّة الدول المجاورة، وخاصّة العراق، ويشكّل خطورة شديدة على لبنان والمملكة الأردنية. يضع الكيان الإسرائيلي في مكانة المتغوّل، ويربطها بنهر الفرات، النقطة المحورية في الصراع المستقبلي.
في الوقت الذي يسعى فيه لبنان إلى استعادة مبدأ الدولة الواحدة وحصريّة السلاح، دخلت سوريا المرحلة الثانية من الصعود المخنوق نحو الدولة
يُعوَّل في كسر هذه المخطّطات على حكماء العرب والكتلة العربية الصاعدة، وعلى عقلاء ودعاة الوحدة في هذه المناطق بالذات من الأكراد، لا سيما الذين يدورون في فلك الدولة الوطنية، أن يلتحقوا جغرافيّاً بالدولة السورية الموحّدة، خاصة بعد ترك الأكراد السلاح وانضوائهم تحت سقف الدولة التركيّة، ومن الدروز العرب الوحدويّين في الجوهر والأصل والمقصد، المؤسّسين لسوريا، خاصة أنّ أغلبهم لن يضيعوا البوصلة.
هم حاملو تراث سلطان باشا الأطرش وكمال جنبلاط. ويتجلّى في هذه المرحلة النصح اللبناني العاقل والراجح في وليد جنبلاط ومشيخة العقل المنتفضين بوجه كلّ كلام شاذّ وحراك نشاز. فهل ينجح المخطّط؟ وهل تكون المنطقة أمام صيغة ديمغرافيّة جديدة من سايكس- بيكو؟
- أساس ميديا