في سوريا، الدم ليس لونًا واحدًا، بل قيمة سياسية تحددها هوية صاحبه. هناك دم “قابل للتسويق” في نشرات الأخبار، ودمٌ آخر يُسفك ثم يُكنس من المشهد كأن شيئًا لم يحدث.
في الساحل السوري، حين تقع حادثة تمسّ أبناء طائفة محددة، يتحرك الإعلام الموالي والمعارض على حدّ سواء، كلٌّ بطريقته، لتأطير الحدث سياسيًا أو طائفيًا أو لابتزازه في المفاوضات. تُفتح الشاشات، وتُستحضر المصطلحات الكبيرة: “النسيج الوطني”، “السلم الأهلي”، “الخطر الوجودي”.
وفي السويداء، عندما يخرج عشرات الآلاف إلى الشوارع مطالبين بكرامة العيش، تصبح القضية فجأة مساحة لتجريب الخطاب الدولي عن “حرية التعبير” و”حق الأقليات في تقرير مصيرها”، رغم أن هذه الأصوات هي جزء من الشعب السوري نفسه الذي يُقتل ويُقمع منذ سنوات، لكن لم يكن أحد يفتح لها المجال حين كانت في المدن السنيّة المحاصرة.
أما في حمص وحلب ودوما ودرعا، فقد سقطت أعداد هائلة من الضحايا السنة دون أن يهتز العالم. جثث تحت الأنقاض، مقابر جماعية، حصار حتى الموت… ثم لا شيء. مجرد أرقام في تقارير الأمم المتحدة، وجملة باردة في نشرة الأخبار: “سقط عشرات المدنيين”. لا مؤتمرات عاجلة، ولا زيارات تضامن، ولا عقوبات فورية.
المفارقة هنا ليست فقط في التغطية الإعلامية، بل في سلوك كل الأطراف:
النظام، الذي يتباكى على وحدة البلاد حين تمسّ الاحتجاجات مناطقه، بينما كان يدمّر مدنًا بأكملها في مناطق أخرى.
المعارضة السياسية، التي تتاجر بدماء المدنيين السنّة حين يناسبها ذلك، لكنها تصمت عن تجاوزات حلفائها إذا كان الضحايا من أقليات.
القوى الدولية، التي تملك معايير مزدوجة واضحة: حماية الأقليات ورقة رابحة في الإعلام والبرلمان، أما حماية الأكثرية فهي “قضية معقدة” تتطلب لجانًا لا تنتهي.
حتى الخطاب الحقوقي العالمي يتعامل مع المأساة السورية بمنطق الاستثمار: الضحية التي تمنحك شرعية سياسية تستحق الدفاع، أما الضحية التي تضعك في مواجهة مصالحك، فهي عبء يُدفن في التقارير السرية.
النتيجة أن الدم السوري صار درجات في سلّم الأولويات، وأن الكذب أصبح لغة مشتركة بين الجميع: النظام يكذب حين يتحدث عن “دولة تحمي الجميع”، والمعارضة تكذب حين تدّعي أنها “تمثل الجميع”، والمجتمع الدولي يكذب حين يقول إن “حقوق الإنسان لا تتجزأ”.
في النهاية، الذين دفعوا الثمن الأكبر هم أولئك الذين لا يجدون من يبكيهم أو يكتب أسماءهم. الأكثرية التي تحوّلت في الوعي الدولي إلى “خلفية رمادية” للمأساة، لا بطلاً ولا ضحيةً في الرواية الرسمية.
ربما سيأتي يوم، بعد أن يسدل الستار، يدرك فيه العالم أن هذا الدم الذي تجاهلوه كان الخيط الذي يربط كل الحكاية السورية، وأن الحقيقة الوحيدة في هذه الحرب كانت وجوه الذين رحلوا بصمت، لكن ذلك الإدراك سيكون بلا فائدة… لأن الموتى لا ينتظرون إنصافًا.
- كاتب سوري