تتجدد الاحتجاجات في شوارع المزة وداريا وكفرسوسة، ويرفع فيها المتضررون لافتات تطالب بإسقاط المرسوم 66، واستعادة ما فقدوه من بيوت وأراضٍ. هذه الحركة ليست رد فعل عشوائي على معاناة، بل صدى لمعركة طويلة بين مشاريع تُقدّم كفرص استثمارية وتنموية، وحقيقة مخفية خلف الأرقام والشركات القابضة: شركات استُغلت لتمرير استثمارات على حساب الحقوق.
ولفهم جذور الصراع، لا بد من الوقوف على شركة دمشق الشام القابضة، التي تشكّلت في فترة حكم نظام الأسد، لتكون الذراع الاستثمارية لمحافظة دمشق، متولّية تنفيذ المشاريع الكبرى مثل ماروتا وباسيليا، لكن هذه الهيمنة جاءت على حساب ملايين السوريين الذين فقدوا أصولهم بأجور زهيدة أو من دون تعويض.
دمشق الشام القابضة: من الفكرة إلى السيطرة
تأسّست دمشق الشام القابضة في 17 ديسمبر 2016، برأس مال قدره 60 مليار ليرة سورية، لتكون شركة مساهمة خاصة مغفلة، مهمتها إدارة واستثمار أملاك محافظة دمشق في المناطق التنظيمية، وبحسب هيكلة الشركة، وضعت مجلس إدارتها تحت رئاسة محافظ دمشق، حيث يُعدّ هذا الجهاز الإشرافي أداة مركزية لدمج السلطة التنفيذية والاستثمار في هيكل واحد.
بموجب هذا الهيكل، تولّت الشركة تفويضًا من المحافظة بأن تدير المناطق التنظيمية، تصدر التراخيص، تتحكّم في الرسوم والغرامات، وتقوم بإنشاء مشاريع استثمارية وعمرانية بمشاركة شركات خاصة. من أهم هذه المشاريع شركة روافد دمشق للاستثمارات، التي تأسست في أغسطس 2018 بشراكة بين دمشق الشام وأربع شركات خاصة، من بينها شركات يملكها رجال أعمال مقربون من نظام الأسد أبرزهم شركة راماك التي يُنسب إليها اسم رامي مخلوف.
في ميدان ماروتا سيتي، استحوذت دمشق الشام القابضة على 49٪ من أسهم روافد مقابل أسهم عينية بها، فيما تولّى الشركاء الاستراتيجيون الـ51٪ بالتمويل النقدي، وكان الهدف المعلن إقامة أبنية سكنية بطوابق متعددة، وتأمين استثمار تجاري وتجهيز خدمات ذكية. بوقوعها في قلب مخطط المرسوم 66، لتصبح دمشق الشام القابضة الأداة التنفيذية المركزية لهذا المشروع الذي مزّق نسيج الملكيات في المزة وخلف الرازي.

أما في 2019، فقد بدأت أعمال باسيليا سيتي رسمياً، بموافقة المحافظ آنذاك، إذ وافقت المحافظة على عقد للدراسة الفنية بتكلفة 750 مليون ليرة، على أن تستغرق الدراسة 480 يومًا. إلا أن التحفيز الاستثماري المصحوب بشروط انتخابية وعدم شفافية توزيع التعويضات مثّل استمرارًا للنهج نفسه.
خيوط النفوذ المالي بين “آل الأسد” وواجهاتهم الاقتصادية
منذ اللحظة الأولى لتأسيس “دمشق الشام القابضة” عام 2016، لم يكن خافياً أن الشركة تمثل الذراع الاستثمارية لمحافظة دمشق، لكنها في الواقع كانت واجهةً اقتصادية لشبكة النفوذ المحيطة بعائلة الأسد. فـرامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد، كان أحد أبرز مهندسي المشروع عبر شركته “راماك للمشاريع التنموية والإنسانية”، التي دخلت شريكاً مؤسساً في شركة “روافد دمشق للاستثمارات” إلى جانب “دمشق الشام القابضة”، بحصة وصلت إلى أكثر من 23 مليون دولار.
لكن نفوذ مخلوف لم يدم طويلاً؛ إذ بدأت أسماء الأسد، التي سعت لتفكيك إمبراطورية مخلوف الاقتصادية وإعادة رسم خريطة رجال الأعمال المقرّبين من القصر، بدعم واجهات جديدة مثل سامر فوز، الذي لمع اسمه سريعاً بعد 2017 من خلال تأسيس شركة “أمان دمشق” بالشراكة مع “دمشق الشام القابضة”. ليصبح “فوز” لاحقاً واحداً من أبرز المستفيدين من عقود البناء والاستثمار في “ماروتا سيتي”، ووُصف حينها بأنه “رجل المرحلة الاقتصادية” الذي حلّ محلّ مخلوف في تمويل المشاريع الكبرى.
وبينما كانت الشركات القابضة تُقدَّم كمشاريع تنموية تهدف إلى إعادة إعمار العاصمة، كانت في الواقع أداة لإعادة توزيع الثروة والملكية العقارية في دمشق، وتحويل مناطق كانت مأهولة بعشرات آلاف العائلات إلى مشاريع استثمارية فاخرة، تتقاسمها واجهات مالية مرتبطة مباشرة بعائلة الأسد. لكنّ هذه المنظومة استمرت حتى بعد سقوط النظام، إذ ما تزال آثار تلك الشراكات قائمة قانونياً في العقود المسجّلة باسم “دمشق الشام القابضة” وشركاتها التابعة، ما يعقّد أيّ عملية لاستعادة الحقوق أو إعادة توزيع الملكية بعد الثورة.
المرسوم 66: العمود الفقري لمشاريع القابضة
صدر المرسوم التشريعي رقم 66 عام 2012، مبررًا كأداة لتنظيم المناطق المخالفة والعشوائيات، لكنه أعيد توظيفه ليصبح الإطار القانوني الذي مكّن “دمشق الشام القابضة” من السيطرة على الأراضي والممتلكات في المزة وداريا وكفرسوسة. إذ نصّت المادة الثالثة على الملكية المشتركة، وحرّمت المادة الرابعة جميع معاملات البيع والشراء، فيما سمحت المادة السابعة بتقدير العقارات عبر لجنة يُشَكّلها المحافظ دون إشراك أصحاب الملكية في اختيار الخبراء. هذه الآلية القانونية سهّلت تنفيذ المشاريع على حساب السكان دون دفع مقابل عادل أو احترام حقوق الطعن القضائي.
وبعد سقوط النظام، ظن كثير من المتضررين أن الغطاء القانوني سيتفكك، لكن ما حصل هو استمرار المشاريع نفسها ضمن الأطر إياها، بل إعادة طرحها في منتديات الاستثمار في 2025، ما أثار موجة احتجاجات في دمشق.
الموقف الرسمي بعد التغيير
بعد سقوط النظام، حاولت محافظة دمشق أن تتصدر موقع المسؤولية المباشرة لمعالجة إرث المرسوم 66، وما خلفه من تهجير واسع ومصادرة ممتلكات السكان، وركز المحافظ ماهر مروان إدلبي في تصريحات متكررة خلال عام 2025 على أن أولويات المحافظة تتجه إلى معالجة التداعيات الاجتماعية الناتجة عن تنفيذ مشروعي ماروتا سيتي وباسيليا سيتي، مؤكداً التزامه بتطبيق العدالة والإنصاف في إعادة إسكان المتضررين، ولو كان ذلك “على حساب المحافظة نفسها”.
في هذا الإطار، جرى تشكيل لجان فنية وقانونية مشتركة تضم ممثلين عن الأهالي ووزارة الإسكان، لدراسة مئات الطلبات العالقة، وتعديل القرارات الناظمة للسكن البديل وبدلات الإيجار المؤقت، إضافة إلى الكشف عن خطط لإعادة إسكان آلاف العائلات ضمن أبراج سكنية جديدة، مع وعود بالمعاملة العادلة. ورغم هذه الخطط، يرى عدد من المتضررين أن الموقف الرسمي ما زال بعيداً عن مطلبهم الجوهري المتمثل في إلغاء المرسوم واستعادة حقوقهم الأصلية.
وعلى الرغم من الشراكات المفترضة مع الوزارات المعنية، تواصلت “المدن” مع وزارتي الإدارة المحلية والأشغال العامة والإسكان للاستفسار عن دورهما في تنفيذ مشاريع ماروتا وباسيليا ضمن إطار المرسوم 66، لكنها نفت أي صلة تنفيذية لها بالمشروع، مؤكدة أن المسؤولية الكاملة تقع على عاتق محافظة دمشق. وبدورها، حاولت “المدن” التواصل مع مكتب المحافظ الإعلامي منذ 29 أيلول 2025 للحصول على رد رسمي، إلا أن الردود توقفت فجأة، ولم يُقدَّم أي توضيح حول تفاصيل التنفيذ أو التعويضات العالقة.

بين البيوت المهدمة والوعود
في المقابل، عبّر أهالي الأحياء التي شملها المرسوم 66 لـ “المدن” خلال وقفة احتجاجية، عن رفضهم القاطع لاستمرار العمل به، معتبرين أنه شكّل منذ البداية أداة لتهجير السكان ومصادرة ممتلكاتهم تحت غطاء “التنظيم العمراني”. كثيرون ممن هُدمت منازلهم أكدوا لـ “المدن” أنهم لم يحصلوا على تعويضات عادلة، وأن السكن البديل ما يزال وعداً بعيد المنال رغم مرور أكثر من عقد. بعضهم وصف ما جرى بأنه “جريمة ممنهجة” استهدفت اقتلاع المجتمعات المحلية من جذورها، فيما أصرّ آخرون على أنّ أيّ حلول لا تقوم على إعادة الأملاك لأصحابها ضمن إطار العدالة الانتقالية ستبقى مجرد محاولات تجميلية. وبينما تتحدث المحافظة عن مشاريع إسكان جديدة، يرى المتضررون أن الحق لا يتجزأ، وأن استعادة بيوتهم وأراضيهم هو الخطوة الأولى نحو مصالحة حقيقية مع الماضي.
مشروع تنموي أم استغلال منظّم؟
في هذا السياق، يرى الخبير الاقتصادي وأستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق الدكتور مجدي جاموس، أن جوهر المرسوم 66 لم يكن تنمويًا خالصًا كما رُوّج له سابقًا، بل استخدم غطاء “التطوير العمراني” لتمرير واحدة من أكبر عمليات إعادة توزيع الثروة في تاريخ العاصمة.
ويوضح في حديثه مع “المدن”، أن المرسوم صُمم نظريًا لتحديث المناطق العشوائية وتحسين البيئة العمرانية، لكنه في التطبيق تحوّل إلى أداة لانتزاع أملاك السكان بأسعار زهيدة، ووسيلة لتغيير ديموغرافي مقصود في محيط دمشق الغربي والجنوبي.
عليه، يشير جاموس إلى أن استمرار العمل بالمرسوم بعد سقوط النظام يعني استمراراً للظلم نفسه ما لم تُعاد صياغة آلياته من الجذر. ويؤكد أن التعويضات السابقة لم تكن عادلة، إذ أُجبر الأهالي على إثبات ملكياتهم خلال فترات قصيرة لا تتناسب مع طبيعة المناطق الشعبية المزدحمة بالورثة والمستأجرين، ما سمح بفقدان كثيرين لحقوقهم القانونية.
ويقول: “إن أي مشروع تطويري حقيقي يجب أن يقوم على شراكة واضحة مع السكان، تعويضٍ منصفٍ لهم بأسهم في المشاريع الجديدة، أو منحهم سكنًا بديلاً مكافئًا لقيمة أملاكهم، وليس إقصاءهم من مناطقهم بحجة التنظيم”. ويضيف أن نجاح أي تجربة عمرانية مستقبلية في دمشق أو غيرها من المدن السورية مشروط بوجود بيئة تشريعية شفافة وضمانات حقيقية لحقوق المواطنين، “فما بُني على باطل لا يمكن أن يُنتج عدلاً أو ازدهاراً”.
صوت المتضررين الموحد
بين الوقفات الشعبية المستمرة في دمشق وتوثيق الانتهاكات، يبرز صوت رابطة “إسقاط المرسوم 66 واسترداد الحقوق” بوضوح. يشير رضوان الغفير، مؤسس الرابطة في حديثه مع “المدن”، إلى أن ما جرى منذ صدور المرسوم لم يكن تنمية عمرانية بأي معنى قانوني أو إنساني، بل كان تهجيرًا ممنهجًا ومنظمًا، استخدم أدوات القانون لتغطية واحدة من أضخم الجرائم العقارية في تاريخ دمشق الحديث. ويقول الغفير “إن عشرات الآلاف أُجبروا على مغادرة بساتين المزة وكفرسوسة والعسالي تحت الضغط الأمني، دون حصول معظمهم على حقوقهم في أراضيهم، بينما تحولت هذه الأراضي إلى رأس مال لشركات خاصة مثل دمشق الشام القابضة، التي أُسست بأراضيهم نفسها”.
وتوضح الرابطة أن المرسوم يُعرَّف رسميًا باعتباره “جريمة حرب مكتملة الأركان وفق المعايير الدولية”، بسبب التهجير القسري، ومصادرة الممتلكات، وتغيير البنية السكانية بالقوة وتحت غطاء قانوني زائف.
ويعلّق الغفير على مزاعم التحضّر في مشروع ماروتا سيتي، ويقول “إن الحديث عن الحضارة يشرعن سلب أملاك الناس ويتجاهل جوهر العدالة وحقوق الإنسان”، مؤكّدًا أن المشروع ليس نموذجًا للتطوير، بل واجهة لتلميع نهب ممنهج لأراضي الناس، التي سُلبت دون رضا أصحابها ودون تعويض عادل أو سكن بديل، مضيفًا أن كل التجارب العمرانية المتقدمة حول العالم تقوم على المشاركة المجتمعية، وليس على الطرد والإقصاء.
وعن إمكانية أن تقوم أيّ حكومة جديدة بإصلاح الخلل وإزالة الظلم، يشير الغفير إلى أن العدالة لا تتحقق إلا بإلغاء النصوص غير الدستورية، بما فيها المرسوم 66 والقانون 10 والمرسوم 19، ويؤكد أن الإصلاح يبدأ من الجذر وفق الإعلان الدستوري السوري لعام 2025، الذي نصّ في المواد 16 و48 و49 على حماية الملكية وإلغاء القوانين الاستثنائية، وتأسيس هيئة للعدالة الانتقالية.
ويكشف الغفير خطوات الرابطة المستقبلية إذا لم يُلغ المرسوم، مؤكّدًا أنً معركتهم مستمرة على أربعة محاور:
1. المسار الدولي: توثيق الانتهاكات ورفعها إلى الأمم المتحدة وهيئات العدالة الانتقالية لتصنيف ما جرى كجريمة مصادرة جماعية وتهجير قسري.
2. المسار الداخلي الدستوري: المطالبة بتفعيل مواد الإعلان الدستوري لتشكيل هيئة وطنية تعيد الحقوق العقارية وتعوّض المتضررين وتوقف مشاريع النهب.
3. المسار الشعبي والإعلامي: تنظيم وقفات واعتصامات سلمية داخل سوريا وخارجها، وإطلاق حملات توثيق وشهادات مصوّرة لأصحاب الأراضي المسلوبة، لإبراز وعي جماعي بأن ما يحدث هو جريمة منظمة لا مشروع حضاري.
4. المسار القضائي المستقبلي: رفع دعاوى استرداد جماعية بحق دمشق الشام القابضة وكل الشركاء المحليين والدوليين المتورطين في المتاجرة بالأراضي المسروقة.
وبحسب الغفير فإن هدف الرابطة النهائي هو إلغاء المرسوم 66 من جذوره، وإغلاق شركة دمشق الشام القابضة، واستعادة الأراضي والحقوق لأصحابها تحت مظلة العدالة الدستورية الجديدة، مؤكدًا أن الحق لا يسقط بالتقادم ولا بالسكوت، وأن معركتهم مستمرة “حتى استعادة كل شبر من الأرض”.
- المدن

























