كان الاعتقاد السائد، في بدايات التحليل لبنية المجتمع السوري بعد التحرير، أن المعضلة الكبرى في طريق الدولة الجديدة تتمثل في النخب الثقافية والسياسية التي ورثت صراعات الأيديولوجيا أكثر مما امتلكت مهارات السياسة والإدارة. لكنّ المشهد الميداني كشف عن معضلةٍ موازية في الخطورة، بل ربما كانت أكثر خطورةً، وتتمثل في الثقافة الاقتصادية للنخبة الاقتصادية ـ الاجتماعية السورية، تلك الفئة التي تملك الثروة والوفرة، لكنها لم تبلور بعد مفهوماً وطنياً لدور المال في التنمية.
فخلال نصف قرنٍ من حكم النظام البائد، كانت «الثروة» في سوريا ثمرة ولاءٍ سياسي وامتيازٍ بيروقراطي، أكثر بكثير من كونها نتاجاً طبيعياً للإنتاج أو الكفاءة. كانت تلك أقرب مثالٍ للرأسمالية الزبائنية التي حوّلت الاقتصاد إلى شبكة مصالح مغلقة، وأعادت تعريف النجاح بمعيار القرب من السلطة لا بمعيار الإبداع والإنتاج. وهكذا، نشأت طبقةٌ مالية رَيعية لا تؤمن بالسوق إلا بقدر ما يخدم احتكارها، ولا بالوطن إلا بقدر ما يحمي امتيازاتها.
ليس غريباً، لذلك، القول بأن الواقع المذكور أنتج إرثاً ثقيلاً، وأن هذا الإرث لم يكن مجرد شبكة فساد بقدو كونه نظاماً ذهنياً وأخلاقياً متكاملاً، شوّه العلاقة بين الدولة والمجتمع، فحوّل القانون إلى توصية، والوظيفة إلى مكرُمة، والعمل إلى سلعةٍ تُقاس بالقرب لا بالجدارة. وكان من الطبيعي أن ينشأ اقتصادٌ يقوم على الخوف لا على الثقة، وعلى الامتياز لا على الكفاءة، فتراكمت الثروات في جيوبٍ مغلقة بينما ازداد الفقر والاغتراب في القاعدة الواسعة من المجتمع.
إنّ أخطر ما خلفه ذلك النظام أنه أسّس لما يمكن تسميته بـ«منظومة الولاء الاقتصادي»، حيث تُقاس القيمة الاجتماعية بمقدار النفوذ لا بمقدار الإنتاج. وحين أُسقط رأس السلطة، بقيت آثارٌ واضحة من تلك المنظومة فاعلةً في البنية العميقة للمجتمع، تواصل إعادة إنتاج نفسها عبر العلاقات والصفقات والشراكات. فالتحرير السياسي لا يوازيه بالضرورة، وبنفس السرعة، تحريرٌ اقتصاديٌ أو ثقافي، ما لم تُعاد صياغة هندسة الحوافز التي تنظّم الفعل الإنساني، وتُستبدل ثقافة الامتياز بثقافة الأداء، وثقافة الارتباط بثقافة الانتماء.
وما يفاقم الإشكالية أن جزءاً كبيراً من هذه النخبة يبدي حماسةً لفظيةً للتحرير، ويُكثر الحديث عن دعم الدولة الجديدة والوقوف إلى جانبها، ويتغنّى بإنجازاتها في المحافل الخاصة والعامة؛ غير أنّ معظم هذا الخطاب لا يتجاوز حدود اللغة إلى حدود الفعل. فحين يتطلّب الأمر مشاركةً حقيقية في مشاريع التنمية، أو استثماراً في قطاعاتٍ استراتيجيةٍ تحتاج إلى الجرأة والثقة، يتراجع كثيرون إلى مواقع الانتظار والترقّب. بعضهم يفعل ذلك بدافع الخوف من تغيّر الموازين، وبعضهم الآخر لأنّ مصالحه ما زالت مشدودةً إلى بقايا المنظومة القديمة التي تمنحه شعوراً بالأمان الاقتصادي. وهكذا، تتحول النخبة التي كان يُفترض أن تكون قاطرة الإصلاح إلى عائقٍ هيكليٍّ أمامه، تُفرمل الحركة ببطءٍ وتحت عناوين منمّقة كـ «التحفظ» و«الحذر» و«الظروف غير المستقرة».
إنّ أخطر ما خلفه ذلك النظام أنه أسّس لما يمكن تسميته بـ«منظومة الولاء الاقتصادي»، حيث تُقاس القيمة الاجتماعية بمقدار النفوذ لا بمقدار الإنتاج
من هنا تبرز الحاجة إلى قراءة التحول السوري الراهن بوصفه انتقالاً معقداً بين منطقين متصارعين. أولهما منطق الدولة التنموية التي تسعى إلى بناء مؤسسات شاملة. أما الثاني فهو منطق الرأسمالية الزبائنية التي تُعيد تدوير الامتيازات ضمن دوائر الولاء القديمة. فالتاريخ يُعلّمنا أن المجتمعات الخارجة من الاستبداد تواجه دائماً ما يسمى بـ «أثر المسار»، أي بقاء أنماط السلوك القديمة داخل البنية الجديدة، حتى في ظل الشعارات الإصلاحية. وهو ما يفسّر بطء التحوّل، وصعوبة تفكيك شبكات النفوذ التي تحاول الظهور بثياب الاستثمار الحديث.
وإذا كان الاقتصاد هو مرآة الأخلاق العامة، فإنّ إصلاحه لا يتحقق بالموازنات والخطط وحدها، وإنما بإعادة تعريف النجاح نفسه. فالنجاح يُقاس بما تُسهم به الثروة في بناء الوطن وصون كرامة الإنسان، وليس بحجم تلك الثروة. وهذا هو جوهر ما يسميه علماء الاجتماع الاقتصادي «الاقتصاد الأخلاقي»، حيث يصبح المال وسيلةً للخير العام لا أداةً للهيمنة، وحيث يُنظر إلى الاستثمار باعتباره فعلاً من أفعال المواطنة.
لقد علّمتنا التجارب المقارنة أن الطبقات المالية يمكن أن تتحوّل من عائقٍ إلى محرّكٍ للتنمية متى ما توفرت البيئة المؤسسية العادلة. ففي إندونيسيا ما بعد سوهارتو، لم يُهدم النفوذ القديم بالقوة، وإنما أُعيد تشكيله عبر قوانين المنافسة والشفافية. وفي جورجيا بعد عام 2004، هُزمت ثقافة الرشوة بإصلاح الشرطة والجمارك والخدمات الرقمية، وليس بالمواعظ. وفي كوريا الجنوبية، حين تحالفت الدولة مع الصناعيين المنتجين بدل المقرّبين، نشأ نموذجٌ تنمويٌّ نقل البلاد من الفقر إلى الريادة. والدرس واحد في جميع الحالات، ويتمثل في ترسيخ حقيقة إنّ الثقة المؤسسية هي رأس المال الحقيقي لأي نهضة، وأنّ كلفة التعاملات، لا تنخفض إلا حين تُبنى منظومة تحكمها القواعد لا العلاقات.
أما في الحالة السورية، فلا تزال العلاقة بين رأس المال والسلطة في طور إعادة التعريف. ذلك أن إعادة بناء الاقتصاد تعني إعادة تأسيس الشرعية الأدائية، وليس فقط ضخ الأموال. بمعنى ترسيخ قدرة الدولة على كسب ثقة المواطنين عبر نتائج ملموسة في المعيشة والخدمات والعدالة. وهذا لن يتحقق إلا بظهور «طبقة مُنتِجة سورية جديدة» تحلّ محلّ الأوليغارشية القديمة، تستخدم المال لبناء المصانع والمدارس، لا لشراء النفوذ. وترى في العمل مسؤوليةً جماعية، وفي الثراء التزاماً أخلاقياً، وفي الاستثمار طريقاً للمواطنة.
هذه الطبقة هي التي يمكن أن تُعيد وصل ما انقطع بين الدولة والمجتمع، فتكون الجسر بين السوق والمصلحة العامة. ومع ولادتها، يمكن للمجتمع أن ينتقل من منطق «الامتياز» إلى منطق «الإنجاز»، ومن ثقافة الخوف إلى ثقافة الثقة. إنها عملية طويلة لكنها ممكنة إذا تضافرت الإصلاحات الاقتصادية مع تحوّلٍ ثقافيٍّ أعمق، يبدأ في المدرسة والإعلام والجامعة، حيث يُعاد الاعتبار لقيمة العمل والإنتاج، وحيث يتعلم الجيل الجديد أن الجدارة فضيلة، وأنّ الطريق إلى الغنى يمرّ عبر الاجتهاد لا الالتفاف.
وفي جوهر هذا المسار يقف السؤال المطروح على الدولة نفسها: هل تستطيع بناء مؤسسات تحكم بالقانون لا بالأشخاص؟ وهل تنجح في إقامة إدارةٍ عموميةٍ نظيفة تحمي المبادرة وتضمن المنافسة؟ إنّ بناء بيروقراطية حديثة، شفافة ومحايدة، هو الشرط الأول لأي تحوّلٍ اقتصادي حقيقي. أما الدولة التي تبقى أسيرة الأهواء والمحسوبيات، فإنها تُعيد إنتاج منطق النظام القديم ولو بشعاراتٍ جديدة.
لهذا، فإنّ الثورة التي أزاحت الاستبداد السياسي يجب أن تُستكمل بثورةٍ صامتةٍ على الاستبداد الاقتصادي والاجتماعي. فكما أن الوطن لا يُبنى بالولاء الأعمى، لا تُبنى الدولة بالثراء الأعمى. وحين تنضج النخبة الجديدة، وتُعيد الثروة إلى معناها الأخلاقي، ستتحول لتصبح العمود الفقري للاقتصاد السوري الحديث، والشريك الحقيقي في ترميم العمران المادي والمعنوي للبلاد.
إنّ النخبة الحقيقية، المطلوبة في سوريا الجديدة اليوم، ليست تلك التي تتقن النقد من بعيد أو ترفع الشعارات في الفراغ، وإنما تلك التي تُحوّل وعيها إلى فعل، وضميرها إلى مبادرة، وثروتها إلى التزام. وحين يحدث ذلك، فلن تعود الدولة مضطرةً لتربية شعبها، وإنما سيجد الشعب نفسه قد أقام دولته من جديد.
دولةً تُقاس قيمتها لا بما تملكه من السلطة، وإنما بما تُحرّره من الإنسان.
كاتب من سوريا يقيم في أمريكا
- القدس العربي


























