قامت ثورات الربيع العربي في جوهرها من أجل إعادة تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم. لم تكن مجرد احتجاج على الفقر أو البطالة، ولم تكن ثورات جياع، بل كانت صرخة من أجل العدالة والمساءلة، ورغبة حقيقية في أن تتحول السلطة من سلطة خوف وخضوع إلى أخرى تخضع للقانون.
انتابت الناس أحلام ملحة بأن يصبح الحاكم موظفًا عامًا يمكن محاسبته أو عزله، لا زعيمًا فوق القانون، وأن تتحطم الأنظمة الدكتاتورية لتحل بدلًا عنها ديمقراطيات حقيقية تبني على الشفافية والعدالة.
ولفهم عمق هذا الحلم، يجب أن ننظر إلى التاريخ القريب والبعيد: فقد شهد القرن العشرون في العالم العربي صعود أنظمة سلطوية كثيرة، تحت شعارات الحرية والعدالة والاشتراكية، لكنها سرعان ما تحولت إلى ديكتاتوريات مطلقة. من مصر إلى العراق وسوريا وليبيا، كانت الشعارات الكبرى تتحدث عن التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية، بينما الواقع كان يسجّل الاستبداد والقمع والملاحقات السياسية، وغياب أي مساءلة للحكام.
وليس هذا فحسب، إذ أن سنوات حكم هذه الديكتاتوريات كانت تعني فعليًا حجزًا للطاقات البشرية والموارد الاقتصادية. الاقتصاد مكبّل، الثروات محتكرة، المبادرات الفردية مقيّدة بالقوانين والسياسات، والشعوب شعرت في النهاية بأنها مسجونة داخل وطنها، لا تستطيع تحريك أي ركن من أركان حياتها بحرية.
حين يرى الناس في الشارع العربي مشهد رئيس سابق يُسجن في كوريا الجنوبية أو البيرو أو فرنسا، يعتريهم مزيج من الدهشة والحسرة.
هذه التجارب التاريخية صنعت شعورًا عميقًا لدى الجمهور بأن السلطة، حين تُترك بلا محاسبة، تتحول إلى أداة للسيطرة على المجتمع لا لخدمته، وأن الشعارات الرنانة غالبًا ما تخفي نظامًا قائمًا على الخوف والإخضاع، بحيث تصبح الحياة اليومية كلها قيدًا مستمرًا على الحريات والطموحات.
الثورات بهذا المعنى كانت تريد تبديل المواقع بين الشعوب والحكام، بحيث تتحرر هي ويسجن أولئك المستبدين. لكن بعد خمسة عشر عامًا، يبدو أن هذا الحلم قد تلاشى في كثير من البلدان العربية. فالثورات المضادة، والتحالفات الإقليمية والدولية، والانقسامات الداخلية، عملت على إجهاض المسار الديمقراطي وإعادة إنتاج أشكال مختلفة من السلطة الاستبدادية. وفي العديد من الدول، أعيد ترتيب المشهد السياسي ليبقى الحاكم محصنًا، بينما تستمر العقوبات والسجون في نصيب المعارضين، لا الرؤساء.
في المقابل، حين يرى الناس في الشارع العربي مشهد رئيس سابق يُسجن في كوريا الجنوبية أو البيرو أو فرنسا، يعتريهم مزيج من الدهشة والحسرة. دهشة لأن الواقع مقلوب عمّا يعرفونه: هناك، القانون فوق الجميع، والرئيس لا يُستثنى. وحسرة لأن هذا كان أحد أحلام الثورات، أن يتحقق العدل، وأن يُحاسب الحاكم كما يُحاسب المواطن العادي.
تاريخ العالم الحديث مليء بالأمثلة التي تبرز هذا الفرق. في كوريا الجنوبية، حُكم على الرئيسين بارك غيون هاي ولي ميونغ باك بالسجن بتهم فساد خلال عقد واحد. في البيرو، تعرض الرئيسان أليخاندرو توليدو وألبيرتو فوجيموري للاعتقال والسجن في فترات متقاربة.
وفي فرنسا، التي شكلت ثورتها قبل قرنين وربع القرن مفترقًا في تاريخ البشرية، وقام الثائرون فيها بإعدام الملك المخلوع لويس السادس عشر، لا تُعد محاكمة الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي حدثًا معزولًا، بل جزءًا من مسار تاريخي طويل للمحاسبة القانونية للقادة. فبعد الحرب العالمية الثانية، حُكم على الماريشال فيليب بيتان، رئيس حكومة فيشي المتعاون مع النازيين، بالسجن مدى الحياة بعد إدانته بالخيانة والتعاون مع الاحتلال، في رسالة واضحة بأن حتى القادة الكبار ليسوا فوق القانون.
هل يمكن أن يتبدل الحال في العالم العربي، بحيث يمتلك الناس صوتهم وقرارهم وإرادتهم، ليواجهوا طغيان المستبدين؟
سلم ساركوزي نفسه للعدالة بتاريخ 21 من هذا الشهر ليقضي خمس سنوات في السجن بعد إدانته بتمويل غير مشروع لحملته الانتخابية عبر أموال نظام معمر القذافي الفاسد في ليبيا، ما يجعل محاكمته امتدادًا لمفهوم مساءلة الحاكم، حتى مع علاقاته الدولية المعقدة.
أما في العالم العربي، فقد بقيت الصورة مقلوبة: السجون مخصصة للمعارضين، والقانون أداة لتصفية الخصوم، بينما الحاكم لا يُسأل. حتى بعد الثورات، لم تتأسس منظومة مستقلة لمحاكمة الرئيس أو محاسبته، بل استمر الاحتفاظ بالسلطة كحق مطلق، أو كأمر مقدس لا يجوز المساس به.
الشارع العربي، حين يرى مثل هذه الأخبار، يتفاعل باستغراب وعدم تصديق، وهي تقوده دائمًا إلى عقد المقارنات، التي تترك أثرًا نفسيًا كبيرًا، فهي تذكر الناس بأن حلم الحرية ومفاعيلها الملزمة لم يتحقق بعد، وأن الدولة لم تتحول إلى فضاء قانونيًا يحمي حقوق الجميع.
وإلى ذلك يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن أن يتبدل الحال في العالم العربي، بحيث يمتلك الناس صوتهم وقرارهم وإرادتهم، ليواجهوا طغيان المستبدين؟ ربما يحتاج الأمر إلى جيل جديد يصدق بأن السلطة وظيفة، وأن احترام القانون أساس الكرامة الوطنية،
كما كان حلم ثورات الربيع العربي قبل خمسة عشر عامًا، حين امتزج الأمل بالاعتقاد بأن الحرية والمساءلة ممكنة، وأن الحياة اليومية ليست سجّنًا، بل فضاءً لإطلاق الطاقات الفردية والجماعية في خدمة المجتمع.
- تلفزيون سوريا



























