هل يُنقذ القرار 2254 فكرة الدولة في سوريا؟ الإطار الأممي بوصفه مرجعية لا بديل عنها وأداة لضبط التوازنات

مالك الحافظ

بعد قرابة العام على سقوط نظام بشّار الأسد، تبدو الساحة السورية بلا عقدٍ سياسي تأسيسي، ولا مرجعية وطنية جامعة يمكن الركون إليها في ضبط العلاقة بين المجتمع والدولة. فـ«الإعلان الدستوري» الذي أصدرته السلطة الانتقالية في آذار (مارس) الماضي لم ينبثق عن توافقٍ وطني ولا عن مسارٍ أممي، إنما جاء كمبادرة أُحادية لفرض الأمر الواقع وترسيخ شرعية سلطوية قائمة على السيطرة وليس على التمثيل، في إطار ما يمكن تسميته بـ«الشرعية القسرية» التي تُشتَقُّ من امتلاك أدوات القوة دون أي عقد اجتماعي، أي من القدرة على السيطرة.

بالمقابل، يبقى القرار الأممي رقم 2254 الإطار الدولي الوحيد القابل للاستدعاء، في نظر المجتمع الدولي، بوصفه خريطة طريق للانتقال السياسي المشروع في سوريا، حتى لو تجاهلته السلطة الانتقالية أو اعتبرته غير واقعي. فالقرار الذي تبناه مجلس الأمن بالإجماع، في كانون الأول (ديسمبر) 2015، والذي حدّدَ فيه مراحل الانتقال السياسي بدءاً من تشكيل هيئة حكم انتقالي وانتهاءً بانتخابات حرة، رغم هشاشته التنفيذية، يحتفظ بصفته مرجعاً إلزامياً في القانون الدولي، ما يجعله الوثيقة الوحيدة القادرة على إعادة تعريف شرعية السلطة في سوريا.

في هذا السياق، تحاول السلطة الانتقالية منذ أشهر أن تُعيد صياغة المشهد السياسي ضمن ما يمكن وصفه بـ«السيادة التفسيرية»؛ أي تحويل مفهوم السيادة إلى أداة تأويل تُبرِّرُ من خلالها إقصاء المرجعية الأممية. وهي تطرح مقولة «الانتقال السوري الخالص» كبديلٍ عن الإطار الدولي، مُستنِدةً إلى حجة أن أطراف القرار (نظام الأسد والائتلاف المعارض) لم يعودا قائمين، وأن البلاد تحتاج إلى صيغة داخلية جديدة لا تُقيّدُها التزاماتٌ دولية.

لكن جوهر هذه المقاربة لا يكمن في إعادة بناء السيادة الوطنية، بل في تكريس شرعية أحادية تُعيد إنتاج بنية الدولة ما بعد السلطوية، أي النظام أو السلطة التي ترث آليات الاستبداد دون رمزيته القديمة، حيث تهيمن السلطة على كل مفاصل القرار من دون رقابة أو فصل بين السلطات. فالسيادة هنا تُوظَّف كغطاءٍ لإعادة احتكار السلطة وليس كآليةٍ لاستعادة الإرادة الوطنية، مما يجعل الخطاب الانتقالي ذاته امتداداً لمنطق «السلطة المتمركزة» الذي ورثته سوريا عن عقود نظام البعث.

تمثّلُ هذه المقاربة مناورةً سياسية ذات طابع مؤسسي تهدف إلى تفريغ القرار 2254 من مضمونه التنفيذي، وتحويله إلى نصّ رمزي منزوع الأدوات. فهي تُكرّر في الجوهر نمط التفاعل الدفاعي الذي ميّز علاقة الحكومات السورية المتعاقبة بالمؤسسات الدولية لعقودٍ طويلة، أي التعامل مع القرارات الأممية بوصفها أوراقاً تفاوضية لا بوصفها مصدر التزاماتٍ قانونية.

غير أن القرار 2254 ليس اتفاقاً سياسياً ظرفياً مشروطاً ببقاء أطراف محددة، بل هو وثيقة أممية مُلزِمة للدولة السورية بوصفها كياناً قانونياً سيادياً معترفاً به دولياً، بغضّ النظر عن السلطة القائمة فيها. وبالتالي فإن تجاهله لا يُسقط صلاحيته بقدر ما يُظهِر حدودَ التحوّل السياسي الراهن، ويكشف عجز البنية الجديدة عن الانخراط في منظومة الشرعية الدولية التوافقية التي تشترط وجود مؤسسات تمثيلية مستقلة وهيئات حكم قابلة للمُساءلة.

إن السلطة الانتقالية في سوريا تستند إلى ما يمكن تسميته بـ «شرعية الأداء»، أي شرعية تُشتَق من القدرة على حفظ الأمن وتوفير الخدمات وليس من العقد السياسي أو التمثيل الشعبي. هذا النمط من الشرعية، الذي عرّفه ديفيد بيتهام وبروس غيلي، يُشكّل أحد أخطر مظاهر التحول السلطوي في الدول الانتقالية، إذ يُحوِّلُ الكفاءة الإدارية إلى بديل عن الإرادة السياسية، ويُعيد تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم على قاعدة المنفعة لا الحق.

القرار 2254 كإطار دولي 

منذ تبنّيه في مجلس الأمن، شكّلَ القرار 2254 مرجعاً أممياً وحيداً للانتقال السياسي في سوريا، لكن فهم طبيعته القانونية ظلّ غامضاً في الخطاب السوري والعربي على حدٍّ سواء. فالقرار لم يُصَغْ بوصفه «اتفاقاً» بين طرفين متنازعين، بل باعتباره إطاراً دولياً مُوجِّهاً يحدّد المبادئ العامة لعملية الانتقال، من دون أن يتدخّل مباشرة في تفاصيل التمثيل أو الصياغة الدستورية.

وبهذا المعنى، فإن القرار لا يقوم على «التعاقد السياسي» وإنما على الولاية الأممية التي تُلزِمُ جميع الأطراف، أياً كانت هويتها اللاحقة، بالالتزام بمسارٍ يقوم على التفاوض، وبهيئة حكمٍ ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، تُشرف على إعادة صياغة الدستور وإجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة.

من الناحية القانونية، يستند القرار 2254 إلى الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يُتيح لمجلس الأمن إصدار قرارات ذات طابع إلزامي سياسي–أخلاقي لا عسكري، تُكرِّسُ ما يُعرف في القانون الدولي بـ«الإلزام غير القسري» أو Soft Obligation، أي الالتزام الذي يفرض على الدول احترام المبادئ المُقرَّرة دون أن يمنح المجلس صلاحية فرضها بالقوة.

وهذا ما جعل القرار قابلاً للبقاء بعد سقوط نظام الأسد، إذ تَعلَّقَ الإلزامُ بمفهوم الدولة السورية بوصفها كياناً قانونياً قائماً، وليس بوجود طرفٍ سياسي بعينه. لكن هذا الإطار الدولي فقد فاعليته عندما تحوّلَ داخل الخطاب السوري إلى أداة صراع على الشرعية؛ فالنظامُ السابق استخدمه لتبرير المماطلة، والمعارضة وظّفته لتثبيت شرعية تمثيلها، فيما تحاول السلطة الانتقالية الحالية تحييده بالكامل بذريعة تَغيُّر الواقع. إلا أنّه، في منطق الأمم المتحدة، لا يسقط القرار بتغيّر السلطات، لأن الالتزام هنا مُؤسَّسي ومرتبط بمسؤولية الدولة تجاه المجتمع الدولي وليس بمدى رضى النخب الحاكمة فيها عنه.

هذا الفارق بين الإطار والاتفاق هو ما يمنح القرار 2254 استمراريته القانونية والسياسية، حتى في غياب أطرافه الأصلية. فهو يُعبّر عن ما يمكن تسميته بـ«الإرادة الدولية التوافقية» أو Consensual International Will، أي الإرادة التي تجمع بين القانون والسياسة لتَجنُّب انهيار الدول ما بعد النزاع.

وبالتالي، فإن أهميّته اليوم لا تكمن في نصوصه الإجرائية، وإنما في مَنهجه المعياري؛ من حيث الاعتراف بضرورة وجود هيئة حكمٍ انتقالية شاملة، تتشارك فيها السلطات التنفيذية والعسكرية والتشريعية ضمن عقدٍ مُؤسَّسي خاضع للمُساءَلة الدولية.

إن جوهر الإطار الأممي يُقاس بقدرته على البقاء مَرجِعاً معيارياً يَحول دون شرعنة الوقائع المفروضة بالقوة، فإذا ما أعلنت السلطة الانتقالية أن «القرار غير واقعي»، فهي فعلياً تُعيد إنتاج فكرة السيادة المغلقة التي زادت من العزلة السياسية لنظام الأسد، بينما المطلوب اليوم هو الانتقال من «السيادة كاحتكار» إلى «السيادة كعقد»، أي تحويل علاقة الدولة بالعالم من علاقة مواجهة إلى علاقة تعاقدية قائمة على الالتزام المتبادل.

غير أن السلطة الانتقالية الراهنة تتعامل مع القرار 2254 كأنه وثيقة تَجاوزها الواقع، إذ تخشى أن يؤدي تطبيقه بمعناه الأصلي إلى تقويض بنيتها المركزية وإجبارها على الدخول في عملية تقاسمٍ للسلطة تتنافى مع نموذجها القائم على احتكار الشرعية.

لكن من منظور الشرعية الدولية، لا يمكن لأي سلطة انتقالية، مهما بلغت قدرتها على السيطرة الميدانية، أن تكتسب صفة التمثيل القانوني للدولة السورية ما لم تكن منبثقة عن مسارٍ أممي مُعترَف به. فالقانون الدولي يقوم على مبدأ أن الشرعية السياسية لا تُكتسب من القوة بل من الإجراء؛ وأن «الأمر الواقع» ليس مصدراً دائماً للشرعية، إنما هو حالة انتقالية مؤقتة بانتظار التسوية التوافقية.

في ضوء ذلك، تتبدّى المعضلة البنيوية للسلطة الانتقالية في سوريا؛ فهي تمتلك أدوات القوة دون أدوات الاعتراف، في حين يحتفظ القرار 2254 بشرعية الاعتراف دون أدوات القوة. وبين هذين الفراغَين؛ فراغ القوة غير المشروعة وفراغ الشرعية غير المُنفَّذة. تتّسع المسافة التي تُبقي سوريا خارج أيّ عقدٍ سياسي فعّال.

إمكانية تأسيس هيئة حكم انتقالية

السؤال الأكثر إلحاحاً في المرحلة الراهنة يتمحور حول إذا ما زال من الممكن تأسيس هيئة حكم انتقالية في سوريا، وفق التصوّر الذي حدّده القرار 2254، في ظلّ سلطة انتقالية تُمسك بكلّ مفاصل القرار العسكري والمدني وتتعامل مع المرحلة بوصفها نهائيةً وليست انتقالية.

الإجابة الواقعية لا تبدأ من النصّ الأممي بقدر ما تنطلق من بنية السلطة ذاتها، فالنظام السياسي القائم اليوم، وإن حمل اسم «السلطة الانتقالية»، يقوم على منطق الاحتكار وليس المشاركة، ويُعيد إنتاج نموذج الدولة ما بعد السلطوية، حيث تُختزَل الشرعية في شخص الرئيس الانتقالي ومؤسساته الأمنية والدعوية/المشيخية. هذا النمط من الحكم يجعل تأسيس هيئة حكم تشاركية بالمعنى الأممي مهمة شبه مستحيلة، ما لم تُمارَس ضغوط دولية وإقليمية تُعيد توزيع القوة وتفتح المجال أمام صيغة «التوازن المؤسسي المؤقت».

الحديث عن «انتقال» في الحالة السورية يبدو سابقاً لأوانه من الناحية النظرية، لأنّ ما يحدث أقرب إلى «تحوّل» بالمعنى البنيوي لا الانتقالي؛ فالتحوّل (Transformation) يُشير إلى إعادة تشكيل القواعد المؤسسية والاقتصادية والاجتماعية التي تنتج السلطة، في حين أن الانتقال (Transition) يفترض وجود نظام قديم يتفكك وآخر جديد يتكوّن. في سوريا، لم يكتمل انهيار النظام القديم، ولم يبدأ بناء النظام الجديد؛ لذلك نحن أمام ما يسميه خوان لينز «المرحلة الرمادية».

من الناحية القانونية، فإن القرار 2254 لا يحدّد آلية تشكيل الهيئة ولا هوية أعضائها، لكنه يفترض من حيث المبدأ وجود توازن تمثيلي يتيح إدارة المرحلة بصفة جماعية. وهذا يعني أن أي هيئة جديدة لا يمكن أن تُفرَض من داخل السلطة الانتقالية نفسها، بل يجب أن تنشأ بمبادرة خارجية–داخلية مزدوجة؛ مبادرة داخلية تعبّر عن مكوّنات المجتمع السوري ومبادرة خارجية تضمنها الأمم المتحدة والدول الراعية، بما يُعيد تعريف الشرعية بوصفها «شرعية التوافق»، وليس «شرعية الغَلَبَة».

لكن لا يمكن لأي إطارٍ أممي أن يُعيد بناء الدولة من دون حوامل اجتماعية قادرة على ترجمة بنوده إلى ممارسة سياسية. فهذه المعضلة السورية تتمثل أيضاً في غياب القوى الوسيطة؛ مثل النقابات، الجمعيات، المنظمات المدنية، والفاعلين المحليين الذين يمكنهم أن يملأوا فراغ الدولة. إنّ إعادة بناء الشرعية تتم من خلال استعادة المجال العام كفضاءٍ وطني مستقل عن السلطة وعن الخارج معاً.

كذلك فإن العقبة الجوهرية تكمن أيضاً في غياب قابلية التفعيل المؤسسي داخل البنية السياسية الحالية، فكل مؤسسات السلطة الانتقالية صُمِّمَت لتكون أدوات تنفيذية وليست هيئات شراكة، ما يجعلها عاجزة عن استيعاب مفهوم «هيئة حكم» ذات صلاحيات حقيقية. ومن دون إعادة هندسة هذه البنية من الداخل عبر توسيع قاعدة القرار وإعادة توزيع الصلاحيات بين المدني والعسكري، سيظل أي حديث عن الهيئة مجرد إعادة صياغة للواقع القائم بعبارات دبلوماسية.

لكن رغم هذه الموانع، يظلُّ تأسيسُ هيئة حكمٍ انتقالية ممكناً من منظور القانون الدولي، لأن القرار 2254 لم يُسقِط مشروعية هذا الهدف. فالهيئةُ ليست كياناً واحداً محدّداً بالأسماء، إنما هي صيغة دستورية مفتوحة يمكن إعادة تعريفها بما يتناسب مع التحولات الواقعية، شرط ألا تُفرَغَ من مضمونها التشاركي. وبذلك يمكن تَصوُّرُ هيئة جديدة تتكوّن من مجلس مدني–عسكري مختلط يُشرف على تنفيذ الالتزامات الدولية، ويعمل كسلطة موازية تُوازن نفوذ الرئاسة الانتقالية وتُمهّد لبناء مؤسسات حكم دائمة.

إنّ التحدي الحقيقي لا يكمن في إنشاء الهيئة من الناحية الإجرائية، وإنما في قدرتها على امتلاك شرعية مزدوجة، من حيث الشرعية الداخلية النابعة من التمثيل الفعلي لمكوّنات المجتمع السوري، والشرعية الدولية القائمة على الاعتراف الأممي. هذه الازدواجية وحدها يمكن أن تُحوِّلَ الهيئة من فكرة إلى مؤسسة، وتمنحها سلطة سياسية حقيقية في مواجهة مركزية القرار الحالي للسلطة الانتقالية.

بذلك، يصبح السؤال عن إمكانية تأسيس هيئة حكم انتقالية جديدة سؤالاً عن قابلية سوريا الراهنة لإنتاج عقدٍ تأسيسي جديد، أكثر مما هو سؤال عن جدوى القرار 2254 نفسه. فالنص ما زال قائماً، لكن الأزمة في من يتجرّأ على تحويله من مرجعية مُعلَّقة أو مُستبعَدة إلى بنية سياسية حيّة، ومن وثيقة دولية إلى مؤسسة وطنية قادرة على فرض مبدأ المشاركة والتداول داخل منظومة حُكْمٍ ما تزال ترى نفسها الصيغةَ النهائية للدولة وليس مرحلة انتقالية في مسارها.

إشكالية إعادة بناء القوة في الدولة الانتقالية

يمثّل البند المتعلّق بتوحيد القوات المسلحة تحت إشراف هيئة الحكم الانتقالية أحد أعقد بنود القرار 2254، وأكثرها صعوبة في السياق السوري الراهن، فالقوة العسكرية اليوم ليست بنيةً مؤسسية خاضعة لمنطق الدولة، بل تجمّعاً فصائلياً متشظّياً يستمدُّ شرعيته من السيطرة الميدانية والانتماء الإيديولوجي أكثر من العقد الوطني.

هذا التفكُّك لا يسمح بتأسيس «مجلس عسكري انتقالي» بالمعنى المُتصوَّر في القرار، لأن وظيفة المجلس في الأصل تقوم على فكرة إعادة توحيد «العنف المشروع» في يد الدولة، وهي الفكرة التي فقدت معناها العملي منذ أن تماهت القوة مع الانتماء.

من الناحية النظرية، يُفترَض بالمجلس العسكري أن يكون أداة لتحويل القوة المسلحة من مُلكية فصائلية إلى وظيفة عمومية؛ أي أن يُعيدَ تعريف الجندية باعتبارها انتماءً للدولة وليس للطائفة أو الهيئة أو التيار. لكنّ البنية الأمنية للسلطة الانتقالية الحالية تعمل في الاتجاه المعاكس تماماً، إذ تقوم على مركزية الولاء الشخصي والديني، وعلى إنتاج منظومة «العسكرة الدعوية» التي تُلبِسُ القوة لباسَ الطهر والرسالة.

بهذا المعنى، لا يُمكن الحديث عن «إعادة هيكلة الجيش الوطني السوري الجديد» في ظلّ سلطة تعتبر السلاح امتداداً لشرعيتها السياسية والدينية، وليس أداةً خاضعة لها.

في التحليل المُقارن، تُظهِر تجارب الانتقال السياسي في أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا والبوسنة أن بناء جيش وطني جديد يمرّ بثلاث مراحل متتابعة، أولها نزعُ التسييس العسكري، أي الفصل بين الهوية السياسية والوظيفة العسكرية؛ وثانيها توحيد القيادة والإدارة عبر دمج القوى المسلحة المختلفة في إطارٍ هرمي واحد؛ وثالثها إعادة صياغة العقيدة القتالية بما يجعل الدفاع عن الوطن بديلاً عن الدفاع عن الجماعة أو عقيدتها.

في الحالة السورية، لم تتحقّق أيّ من هذه الشروط، فالعسكرةُ بقيت أداة سلطة، والقيادةُ بقيت فصائلية، والعقيدة بقيت إيديولوجية. لذا فإن أي «مجلس عسكري» يُشكَّلُ ضمن هذه البيئة لن يكون إلا امتداداً للسلطة القائمة بثوبٍ مؤسسي جديد، لا خطوةً نحو بناء جيش وطني حديث.

من زاوية القانون الدولي، يُفترَض بالمجلس العسكري الانتقالي أن يخضع لرقابة هيئة الحكم الانتقالية المنصوص عليها في القرار 2254، أي أن يكون جزءاً من السلطة المدنية الانتقالية وليس بديلاً عنها. لكن في الواقع السوري، العلاقة معكوسة؛ فالقوة العسكرية تُهيمن على المدني، وتستخدم رمزية «الحماية» لتبرير الوصاية.

هذا الانقلاب في التراتبية يُنتِجُ ما يمكن تسميته بـ«العسكرة الشرعية»، أي شرعنة السيطرة المسلحة بوصفها الضامن الوحيد للاستقرار، وهو منطق يقتل جوهر العملية الانتقالية.

إن إعادة بناء المؤسسة العسكرية على أسس وطنية لا يمكن أن تتمّ بقرار من السلطة الانتقالية نفسها، لأنها المستفيد الأول من فوضى السلاح. بل تحتاج إلى عملية نزع عسكرة تدريجية بإشرافٍ دولي وعربي مشترك، تُحدَّد خلالها مهامّ الجيش وأجهزته الأمنية ضمن إطار قانوني واضح، وتُنشأ هيئة مدنية مستقلة تُشرف على دمج المقاتلين وتسريح غير المؤهّلين وفق معايير مهنية ووطنية.

إنّ نجاح أيّ انتقال سياسي مشروطٌ بإعادة تعريف القوة ليس كاحتكارٍ أمني بل كوظيفةٍ دستورية، وبإعادة إدراج المؤسسة العسكرية ضمن المجال العمومي للدولة وليس ضمن منطق العصبية أو الرسالة.

كذلك لا يمكن لهيئة حكم انتقالية أن تنجح دون جيشٍ يَعترِفُ بشرعيتها، ولا يمكن لجيشٍ وطني أن يتكوّنَ دون سلطةٍ تفصل بين شرعية القوة وقوة الشرعية. لذا فإن ما تحتاجه سوريا اليوم ليس «مجلساً عسكرياً انتقالياً» بالاسم، وإنما تحوّلاً جذرياً في معنى القوة نفسها؛ من أداة بقاءٍ في يد السلطة إلى ضمان مُشترَك لبقاء الدولة.

آفاق تفعيل القرار 2254

يبدو المشهد الدولي في التعامل مع القرار 2254 محكوماً بتناقض عميق بين الاعتراف المبدئي واللامبالاة التنفيذية. إذ يبدو أن المجتمع الدولي ما يزال يؤكد تمسّكه بالقرار كإطارٍ مرجعي وحيد على المستوى الخطابي، لكنه في الممارسة يتعامل معه كأداة لضبط التوازنات دون تغييرها. هذه الازدواجية حوّلت القرار من وثيقة انتقالية إلى آلية لإدارة الجمود، أي وسيلة لإبقاء الوضع السوري داخل حدود الاستقرار الأدنى دون انزلاقٍ شامل، ولكن أيضاً دون فتح مسارٍ فعلي نحو التَحوُّل السياسي.

في هذا السياق، يمكن الحديث عن شرعية دولية مُركَّبة تحكم الموقف من سوريا اليوم، فهناك ضرورة توجبُ وجود شرعية قانونية يمثلها القرار 2254، بينما في الواقع تظهر شرعية سياسية واقعية مؤقتة أو راهنة تُمثِّلها السلطة الانتقالية القائمة. وفي ظل الواقع الحالي يُصبح القرار أداة تأجيل أكثر منه أداة تنفيذ، ويُعاد إنتاج منطق «الإدارة عن بُعد» الذي طبع السياسة الدولية في سوريا منذ العام 2013.

فالشرعية الواقعية هي تلك التي تنشأ من السيطرة الفعلية على الأرض وما تمنحه من قدرة على فرض القرار، بينما الشرعية القانونية تستمدّ مشروعيتها من الإقرار الدولي والإجرائي بها، أي من مُطابَقة الفعل السياسي للمعايير الأممية والدستورية المُعترَف بها، وبين هاتين الشرعيتين تتحرك السلطة الانتقالية السورية في مساحة رمادية تجمع بين الاعتراف الجزئي والتمثيل الناقص.

من الناحية العملية، لا يمكن تفعيل القرار إلا عبر وساطة دولية متعددة المستويات تتجاوز نموذج جنيف التقليدي. فالمطلوب بناء مسارٍ تقني–سياسي جديد يربط بين إعادة الإعمار، وإصلاح المؤسسة الأمنية، ودمج القوى المسلحة ضمن إطارٍ قانوني تحت إشرافٍ أممي. هذه المقاربة، التي تعتمدها الأمم المتحدة عادة في حالات ما بعد النزاعات، تقوم على فكرة أن التحول السياسي يُبنَى من الأسفل إلى الأعلى عبر إصلاح مؤسسات الدولة وتوسيع المشاركة المحلية، وهو ما يمكن تسميته بـ«التحول الزاحف نحو الشرعية».

ويمكن القول إن آفاق تفعيل القرار 2254 لا تعتمد على إعادة كتابته أو تعديله، وإنما على إعادة ترتيب الإرادة الدولية حوله. فالقانون الدولي لا يُنفَّذ بنفسه، بل بقدر ما تتوافر الإرادة السياسية لتفعيله، وإذا كانت السنوات الماضية قد أثبتت غياب تلك الإرادة، فإن سقوط نظام الأسد وظهور سلطة انتقالية قد أعادا فتح المجال أمام توافقٍ أدنى يُعيد تعريف القرار من وثيقة تسوية إلى إطار للضبط والمُساءلة، أي كأداة لإبقاء سوريا ضمن منطق الدولة.

فعلياً، إن معركة السوريين تتمركز حول معنى الدولة نفسها، فهل يمكن أن توجد دولة من دون عقدٍ سياسي جامع، ومن دون مرجعية قانونية تضع حدوداً للقوة.

إنّ إنقاذ القرار 2254 لا يعني بالضرورة التمسُّكَ ببنوده حرفياً، بل تحويله إلى إطار مرن لإعادة إنتاج الشرعية على أُسس وطنية، فالنصُّ ما زال حيّاً بقدر ما يُفعَّل في الوعي السياسي، وربما يكون التحدّي الحقيقي اليوم في إعادة كتابة فكرة الدولة السورية نفسها: دولةٌ مدنية تُعرِّفُ السيادة كمسؤولية، والشرعيةَ كعقدٍ مؤسسي وليس كغَلَبةٍ دينية/طائفية أو عسكرية.

لا يمكن النظر إلى القرار 2254 كأداة ضغط دولي فحسب، وإنما كضرورة سورية داخلية، فهو الإطار الوحيد الذي يمنح أي سلطة انتقالية فرصة لاكتساب شرعية قانونية خارجية واعتراف سياسي من دون الخضوع لوصاية كاملة. الذين يسعون لتجاوزه باسم «الخصوصية السورية» يكرّرون حرفياً منطق نظام الأسد، الذي قاوم كل اتفاق دولي باسم السيادة، وانتهى إلى عزلة كاملة.

حتى لو كان القرار غير مثالي، لكنه القاعدة الدنيا المُمكنة لإعادة دمج سوريا في النظام الدولي، وتأسيس حياة سياسية قابلة للاستمرار. بينما كل بديل آخر سيكون مجرد إعادة تدوير للفوضى.

القرار 2254 باقٍ لأن المجتمع الدولي لم يجد بديلاً، ولأن السوريين لم يُنتِجوا عقداً وطنياً جديداً، أما السلطة الانتقالية، فهي أمام اختبار حقيقي؛ فإما أن تتعامل مع القرار كفرصة لتثبيت شرعية انتقالٍ منظم، أو كخطرٍ على امتيازاتها الراهنة.

وفي الحالتين، يبقى القرار 2254 حتى اللحظة المعيارَ الوحيد الذي سيقيسُ به العالمُ مشروعيةَ أي سلطة قائمة في دمشق، فليس سقوط نظام الأسد ما يُنهي القرار، بل ما قد ينهيه هو غياب الرغبة في بناء دولة تستحق أن تُحكَم بالقانون.

  • الجمهورية نت
Next Post

اترك رد

منتدى الرأي للحوار الديمقراطي (يوتيوب)

أكتوبر 2025
س د ن ث أرب خ ج
 123
45678910
11121314151617
18192021222324
25262728293031

Welcome Back!

Login to your account below

Retrieve your password

Please enter your username or email address to reset your password.

Add New Playlist