بعد أربعة عشر عامًا على اندلاع الثورة السورية، يمكن القول إن الثنائية التي شكّلت أساس المشهد السياسي منذ عام 2011، أي “النظام والمعارضة”، لم تعد كما كانت في بدايتها. كانت المحددات واضحة: نظام يصرّ على البقاء بأي ثمن، ومعارضة تطالب بالتغيير والحرية. لكن مع مرور السنوات، وتبدّل موازين القوى، وسقوط النظام وهروبه، انقلب المشهد رأسًا على عقب.
وباتت قوى الثورة والمعارضة هي من تمسك بمؤسسات الدولة، وأصبحت مُطالبة أمام السوريين بتحقيق قيم الثورة في الحرية والعدالة ودولة القانون، وعدم التبعية للخارج، والتعامل مع الشعب السوري بكل مكوناته على أرضية المواطنة والاحترام، والذهاب معًا إلى المستقبل الذي سنعيشه معًا، وتطبيق العدالة الانتقالية على شريحة محددة من المتورطين بدماء الشعب السوري.
الجيل السوري الجديد، الذي وُلد خلال الحرب، لا يعرف سوى الحرب، ويرى أن السلطة البائدة هي من ظلمته وهجّرته.
فيجب أن تبدأ التحولات مباشرةً من إصلاح سياسي شامل يعيد الثقة بين الدولة والمجتمع، عبر ترسيخ مبدأ المواطنة والمساءلة، وتوسيع المشاركة في صنع القرار. ويتزامن ذلك مع إصلاح اقتصادي متوازن يعزز الشفافية، وينهض بالإنتاج الوطني ويدعمه ويطوره ويوفر فرص العمل، ويستند إلى بيئة آمنة مستقرة. كما أن تعزيز سيادة القانون واستقلاله، وأن يكون رأس الهرم في المجتمع بين السلطات، ومكافحة الفساد، يشكّلان المدخل الحقيقي لتحقيق الاستقرار العام والتنمية المستدامة في العهد الجديد.
ويعزز ذلك ثقة المكونات السورية عبر الاحترام والمشاركة في مؤسسات الدولة السورية، لاسيما أن سوريا تعيش حالة من التوزع الجغرافي لمناطق لم تندمج بعد أو رافضة للاندماج بالدولة. فهذه تحتاج إلى جملة من المفاوضات لتعزيز أرضية مشتركة توحد كل الجغرافيا السورية وتحصنها عبر اللحمة الداخلية من أي عبث خارجي، وتجريم اللغة الطائفية أو مصطلح “الفلول” الذي بدأ يُعمم ضد أي أحد كان يعيش في مناطق النظام.
أما عبارة “أنتم كنتم صامتين بزمن النظام وتريدون الكلام اليوم!” فهي مرفوضة؛ فكل نضالنا السابق كان من أجل الحرية السياسية لكل السوريين، وهي أول كلمة كانت في هذه الثورة.
كما أن الجيل السوري الجديد، الذي وُلد خلال الحرب، لا يعرف سوى الحرب، ويرى أن السلطة البائدة هي من ظلمته وهجّرته. فهو لا يميّز بين السلطة والدولة، ويظن أن أي أحد يمت بصلة للدولة، مهما كان عمله، حتى لو كان عامل نظافة، هو سبب معاناته، علمًا أن هذا غير صحيح. فهذا شعب عاش مُكرَهًا تحت التهديد والجبر والإكراه، والنبلاء المناضلون ناضلوا لتحرير كل السوريين، لا بعضهم، من نير الاستبداد والديكتاتورية وآلة القمع والإجرام.
إن الثنائيات أو التعميمات تخلق اصطفافًا لا يخدم المشروع الوطني النهضوي للخلاص من تركة الاستبداد الثقيلة. واليوم، هناك أسئلة كبرى عند السوريين تتعلق بكيف تُحكم البلاد، وكيف يمكن استعادة مفهوم الدولة ومنطقها، وهي حسابات ليست مثالية ثورية، بل مقاربات تحقق المصلحة والاستقرار للسوريين جميعًا.
وما زال الخطاب السياسي عند كثير من القوى السورية عالقًا في مرحلة الشعارات الأولى، عاجزًا عن مواكبة تحوّل الناس وتغيّر الأحداث. اكتشف السوريون أن الخلاص لا يأتي من تغيير من يحكم فقط، بل من كيفية الحكم، ومن ضرورة بناء عقد اجتماعي جديد، وأن الاستبداد والفساد لا يحملان لونًا واحدًا.
إن تجاوز ثنائية “النظام والمعارضة” يعني الانتقال إلى مرحلة سياسية جديدة، تتأسس على الاعتراف بتعدد الفاعلين والمصالح، وعلى تقبّل الاختلاف، والسعي لتأسيس مشروع وطني جامع يتجاوز الانتقام والاصطفافات. وربما تكون الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي أن يعترف الجميع بأن سوريا لم تعد كما كانت، وأننا بحاجة إلى ذلك التواضع الواعي من قبل الجميع، من أجل الجميع، ولمصلحة الجميع. فالحل لن يكون بإقصاء أحد، بل بإعادة تعريف معنى الدولة نفسها، ومفهوم الوطن والمواطنة والوطنية.
فبعد مرور أكثر من ثلاثة عشر عامًا على اندلاع الصراع السوري، تبرز تحولات عميقة في بنية الوعي السياسي لدى السوريين. فالثنائية التقليدية التي هيمنت على المشهد منذ عام 2011، والمتمثلة في “النظام والمعارضة”، تفقد قدرتها على توصيف الواقع في البلاد اليوم. نحن بحاجة إلى الانتقال من فكر الثورة إلى فكر الدولة، فهو الطريق إلى سوريا الجديدة.
اليوم، وبعد سقوط النظام الذي شكّل محور الانقسام، يبرز سؤال جوهري: كيف ننتقل من فكر الثورة والمعارضة إلى فكر الدولة والبناء؟ لقد كانت الثورة فعل احتجاج على الظلم والاستبداد، وصرخةً من أجل الكرامة والحرية، لكنها بطبيعتها مرحلة استثنائية تقوم على التحدي والمواجهة لا على الإدارة والبناء. أما اليوم، وبعد أن طُويت صفحة النظام القديم، فإن استمرار التفكير بعقلية المعارضة أو الانتقام والمواجهة لن يفتح أبواب الغد، بل سيبقي البلاد في دوامة الانقسام والتناحر.
إن اللحظة التاريخية الراهنة تفرض على النخب السياسية والفكرية أن تتحمل مسؤولياتها، وأن تبتعد عن عقلية “المعارضة الدائمة” نحو عقلية “الشراكة الوطنية”.
إن فكر الدولة هو ما تحتاجه سوريا في عهدها الجديد، فكرٌ يؤمن بالمؤسسات لا بالأفراد، وبالقانون لا بالشعارات، وبالتعددية لا بالإقصاء. فالدولة ليست طرفًا في صراع، بل هي الإطار الجامع الذي يحتضن الجميع دون تمييز. ومن هنا، فإن أول خطوة في التحول نحو البناء هي إعادة تعريف الوطن كبيتٍ مشترك لكل السوريين، تُصان فيه الحقوق وتُحترم فيه الاختلافات.
فلا أحد اختار من يعيش معه، لكننا كعقلاء ينبغي أن نفكر كيف سنعيش. فالانتقال من فكر الثورة إلى فكر الدولة يعني أيضًا الانتقال من منطق الهدم إلى منطق الإنتاج، من الشارع إلى المؤسسات، ومن ردّ الفعل إلى الفعل المنظم. ويتطلب ذلك مشروعًا وطنيًا جامعًا يضع أسس الحكم الرشيد، ويعيد الثقة بين المواطن والدولة، ويفتح الباب أمام تنمية مستدامة قائمة على العدالة الاجتماعية والفرص المتكافئة.
إن اللحظة التاريخية الراهنة تفرض على النخب السياسية والفكرية أن تتحمل مسؤولياتها، وأن تبتعد عن عقلية “المعارضة الدائمة” نحو عقلية “الشراكة الوطنية”. فبناء الدولة ليس مهمة حكومة مؤقتة، بل هو مشروع أمة وطنية يسهم فيه الجميع.
ولا نزال نتعثر في الانتقال من ثنائية “النظام والمعارضة”، غير أن تجاوزها حتميةٌ للاستقرار والنهوض وتعزيز بناء العقد الاجتماعي. فسوريا الجديدة لن تُبنى بالحقد، بل بالعقل والعدالة والإرادة المشتركة. وإذا كانت الثورة قد حررت الإرادة، فإن الدولة هي التي ستحرر المستقبل.
- تلفزيون سوريا























