لا يوجد طرفٌ واحد من بين الأطراف، السياسية والأقوامية والطائفية، العاملة على المسرح السوري، لا يتحمّل قسطاً من المسؤولية في الفوضى السياسية والفكرية التي تسم الوضع الراهن المشحون بتوتراتٍ لا تلين. تقع المسؤولية الأكبر في العمل للتخفيف من هذه التوتّرات على عاتق السلطة، حتى لو لم تكن المساهمة الوحيدة فيها، فهي صاحبة المصلحة الأولى في تشجيع الجميع على الانخراط الإيجابي في عملية الانتقال نحو الدولة الجامعة. أول ما عليها عمله لتحقيق ذلك أن تبلور بشكل واضح مشروع هذا الانتقال الموعود، وأن تتعامل مع الجميع بشكلٍ شفّاف حتى يعرف كل فرد وكل جماعة ما هي الأولويات، وما هو الطريق، وما هو الهدف الذي نعمل جميعا، نحن السوريين، من أجله: أي نوع من الحكم، وأي قيم نريد لها أن تحكم علاقاتنا في ما بيننا، أفراداً وجماعات وطوائف وقوميات، وما هو المطلوب من كل الأطراف لإزالة الخلافات وتحقيق التعاون اللازم للوصول إليه. وهذا يعني أن يكون لدينا، نحن السوريين، على اختلاف مذاهبنا وأصولنا، بوصلة واحدة تقود خطانا إلى سورية التي نريدها حرّة موحدة تساوي بين جميع أبنائها وتصون حقوقهم من دون أي تمييز من أي نوعٍ كان.
هذا ما كان على الحوار الوطني أن يعمل عليه ولم يفعل، وهو ما لم تستطع السلطة إنجازه خلال الأشهر العشرة الماضية أيضا. أدّى ترك الأمور غامضة وإعطاء إشارات متناقضة إلى سلسلة من الأزمات وسوء التفاهم وانعدام الثقة المتفاقم بين السوريين، وقاد إلى ما شهدناه من أخطاء وارتكابات خطيرة في الأشهر الماضية، كان من الممكن والضروري تجنّبها. وهو ما غذّى أوهاماً كبيرة لدى بعضهم بحتمية الانقلاب، وأثار، في المقابل، حساسيات ومخاوف، وفتح ثغرةً بين الطوائف تحاول القوى المعادية لسورية استغلالها لإجهاض عملية التعافي والاستقرار وإعادة البناء. وبمقدار ما أوحى هذا الموقف للأكثرية الدينية بأن السلطة الجديدة جاءت لتعويضها عن العذابات التي تعرّضت لها خلال الحكم السابق، عزّز الاعتقاد لدى أطرافٍ أخرى بأن الخاسر الأكبر من التغيير سوف تكون الأقليات التي استسهل اتهامها بمهادنة سياسات النظام السابق الطائفية.
أصبح خلاف الفرد في موقفه السياسي عما يحدّده الزعيم الديني أو القبلي في نظر الجماعات المختلفة خيانة للجماعة أو انشقاقا عنها
وفي ظل الغموض الهدّام لمعنى الانتصار والتغيير والتحرير أعيد عن قصد أو غير قصد بناء خطاب الاحتراب والصراع الأهلي بين أكثرية وأقليات على تقاسم السلطة. وفي هذا الاحتراب، بل الحرب المشتعلة تحت الرماد، التحق الفرد بزعامة جماعته الدينية، واضطرّت بعض الجماعات إلى تكوين هذه الزعامات أو إعادة تشكيلها على عجل. وبمقدار ما عمّ الاستقطاب على هذه القاعدة، أصبح خلاف الفرد في موقفه السياسي عما يحدّده الزعيم الديني أو القبلي في نظر الجماعات المختلفة خيانة للجماعة أو انشقاقا عنها. ومن الطبيعي أن يكون الضحية الأولى لهذا الاحتراب خطاب المواطنة أو الوطنية، وأن يتحوّل أصحابه إلى غرباء عن طوائفهم وأحيانا أعداء لها. وغاب مع اختفائه في الحوار الممنوع منطق العقل السياسي وحل محله منطق العصبية الأعمى. وصار الوطن هو أنا ومن يؤيّدني، وكل من لا يقف إلى جانبي ويدعم قضيتي هو الخائن أو العدو. وغابت السياسة ذاتها كما غاب معها الحديث عن وطنٍ أو برنامج وطني أو سياسة وطنية. ولم تفتقر أجهزة السلطة ذاتها إلى خطاب وطني فحسب بل، أكثر من ذلك، لم تعد تتداول في معنى سورية الجديدة سوى لغة الاستثمارات والوعود بالنهضة الاقتصادية والاحتفاء بالعلاقات المتجدّدة مع الخارج الإقليمي والدولي.
هكذا تخلّينا كلّيا عن برنامج الحقوق الإنسانية التي هي حقوق فردية وكونية، وصرنا نتحدّث عن حقوق المكوّنات التي تتنازع الانتماء (وفي بعض الأحيان عدم الانتماء) لسورية، وحق كل منها في التعويض عن تضحياتها، والأذى الذي ألحق بها قبل الثورة أو بعدها. وهذا ما أدّى إلى مزيد من التباعد والانقسام بحيث لم يبق من يتكلم عن شعب سوري، ومن ثم عن وطن واحد، إلا القلائل الذين أصبحوا كالقابض على النار أو السائر على حبل مشدود، في مواجهة الحراب المتقاطعة.
خطاب “المكوّنات” وخطاب المواطنة: من الصعب لخطاب المكوّنات السائد اليوم وما يرافقه من مظلوميات متنافسة، ومن تركيز على حقوق الجماعات عوضاً عن التركيز على حقوق الأفراد أن يقود إلى أي حل. بل لا يمكن إلا أن يعمّق استمراره الشروخ، ويقود إلى تفجير النزاعات والصدامات العنيفة التي لم تخدم سوى مصالح القوى الأجنبية الراغبة في تقسيم سورية أو على الأقل إبقائها معلّقة في الفراغ. فكما يبطل التجييش الطائفي التفكير السياسي، فإنه يجعل من خطاب المظلوميات من جميع الأطراف بديلا لخطاب الحقوق والواجبات المؤسّس للشعب بالمعنى السياسي للكلمة، أي للأفراد بوصفهم ذواتاً سياسية، يشاركون في بناء أمة ودولة من خلال القانون والمواطنة المتساوية. فالمكونات، سواء كانت طوائف دينية أو إثنية، لا ترى في الفرد إلا امتداداً عضوياً لها، والقانون الوحيد الذي يحكم إعادة إنتاجها ويحدّد قوتها وتماسكها وقدرتها على ربح رهاناتها هو العصبية التي تشد أفرادها إليها، وتجعل منهم قوة ضاربة موحّدة في مواجهة خصومها. وجماعات العصبية لا تتحدّث عن أوطانٍ، ولا عن حقوق أفراد ولا يهمها مصيرها، وإنما عن مواطن أو حمى خاصة بها تختلط فيها مشاعر الانتماء للقبيلة مع مشاعر الامتلاك للأرض.
في المقابل، يشير لفظ الشعب، في السياق التاريخي الحديث، إلى مفهوم سياسي يختلف كليا عن مفهوم الجماعة الأهلية الثقافوي. إنه صناعة سياسية نشأ مع مفهوم المواطنة، وعمل على صناعته تبنّي برنامج الحقوق العامة التي تقرّها الدولة لكل فرد، وتبرّر هي ذاتها وجود الدولة الحديثة أيضا. وبسبب تحقيق هذا البرنامج، تراجعت العصبيات الأهلية ونشأت الأمة، أي الجماعية الوطنية. وهي جماعة سياسية يرتبط وجودها بضمان ممارسة هذه الحقوق وتتقدّم بتقدّم هذه الممارسة. والسلطة التي تلتزم بتطبيقها والحفاظ عليها هي التي تحظى بالشرعية، ولا يمكن إلا أن تكون سلطة منبثقة من الأفراد أنفسهم وقد تحولوا، بفضل تمتّعهم بهذه الحقوق، إلى ِشعب، أي إلى جماعة سياسية جديدة متميّزة عن الجماعات الأهلية وعابرة لها. وهو بالتالي مفهوم ارتبطت ولادته بتطور مفهوم الدولة بوصفها دولة الشعب والناس والجمهور (ومنه الجمهورية)، لا دولة الملك أو الأرستقراطية الحاكمة التي كانت المتمتّعة الوحيدة بالحقوق بمقدار ما كانت هذه الحقوق خصوصية. ولا تعني المواطنة في العصر الحديث سوى التمتّع المتساوي بحقوق هذه السلطة/ الدولة، والقيام بالواجبات التي ترتبط بها وتعيد إنتاجها.
أدّى ترك الأمور غامضة وإعطاء إشارات متناقضة إلى سلسلة من الأزمات وسوء التفاهم وانعدام الثقة المتفاقم بين السوريين
ومن هذه الحقوق وأولها الحقوق السياسية التي تعني المشاركة في القرار، من خلال حقّ التعبير والتمثيل والنقد والاحتجاج والانتخاب وتغيير الحكومات، فالمواطن، بعكس الأخ أو ابن العم في الطائفة أو القبيلة، هو من يتمتّع بهذه الحقوق، ويشارك في إقامة السلطة العمومية التي ترعاها، بغض النظر عن انتمائه العضوي الأصلي. وما يعيد تشكيل الأفراد كجماعة موحدة ومتفاعلة (شعب، أمة) ليس الموروث الثقافي أو الديني، متوهّما كان أو حقيقيا، وإنما مشاركتهم المتساوية في هذه الحقوق. وهذا ما يقع على عاتق الدولة واجب تنظيمه مقابل حصولها على الشرعية. وذلك كله من خلال خضوع الجميع للقانون بمن فيهم الدولة نفسها. فالقانون هو المؤسّس للدولة والشعب بوصفه هيئة تمثل الأفراد الأحرار الذين صاغوا القانون بمحض إرادتهم وعبر ممثليهم الشرعيين.
لا تولد المواطنة من الانتماء الهوياتي، ولا تنشأ من تلقاء نفسها، وإنما هي ثمرة نظام سياسي يبنى لبنة لبنة على قاعدة اختيارات أخلاقية واجتماعية عموداها الحرية والمساواة القانونيتان. وهي اختيارات تستدعي عملا منظما على الفرد وعلى المجتمع، في الثقافة وفي التربية وفي الممارسة السياسية والشروط المعيشية. فعلى تنمية هذه الحقوق الفردية وممارستها تتأسس الأمم الحديثة بوصفها جماعة واعية بهويتها السياسية، تحكم نفسها بنفسها، ولا تحكم من خارجها. ومن المواطنة التي هي صفة من يتمتّع بهذه الحقوق تولد الوطنية، أي الروح الجامعة التي تدفع الأفراد/ المواطنين إلى التضامن والتلاحم والتعاضد دفاعاً عن الدولة، لا بوصفها تعبيراً عن هوية ثقافية، وإنما تجسيداً مادّياً للقانون الضامن والكافل حقوق الأفراد.
لا تولد المواطنة من الانتماء الهوياتي، ولا تنشأ من تلقاء نفسها
هذا هو البرنامج السياسي الذي تبنى عليه الأمم الحديثة أو الدول الأمم. وهي التي تغيب كلياً عندما نتحدّث عن مكوّناتٍ من طوائف وعشائر وإثنيات. فكل ما هو مطلوب في هذه الحالة: أولا، أن يكون للمكونات ممثلون في الحكم من طينتها ومتماهون معها، أو كما درج عليه القول بعد سقوط الأسد، أناس “يشبهوننا”. وثانياً، أن تكون حصتنا من الدولة التي لا تُرى إلا باعتبارها موارد ومكاسب مادية ومعنوية، متناسبة مع حجمنا أو وزننا أو قوة عصبيتنا. ما يعني أن الدولة نفسها تتحوّل إلى غنيمة وتطرح للتقاسم على العصبيات المتنازعة عليها، أي أن تفقد هويتها السياسية بوصفها تجسيداً وتطبيقاً لسلطة القانون الضامن حقوق الأفراد الأساسية، ومن ثم سيادتهم.
ليس مهماً في هذه الحالة أن يكون ممثل الجماعة في السلطة كفؤاً أو أميناً أو فاسداً، المهم أن يكون من جلدتنا وديننا أو قوميتنا، ويدافع عنا وعن مصالحنا الجمعية، أي حصتنا من السلطة والثروة والجاه. ومن الأفضل أن يكون من “جنسنا”، ومنه مفهوم “التجانس” الذي استخدمه الأسد الابن سيئ الذكر، يتكلم لغتنا ويضرب بسيفنا. وكلما أظهر شراسة أكثر في تأكيد الخصوصية والتعبير عن المظلومية المكافئة للمطالب المادية، كان أكثر شعبية وقدرة على شد عصب أتباعه وتوحيد إرادتهم الجمعية. والنتيجة تختصر السياسة في شخص الزعيم وقدرته الخاصة على تعبئة أفراد الطائفة أو العشيرة وراءه لإخضاع الخصوم أو فرض اقتطاع الحصة الأكبر من الغنيمة/ الدولة.
بين المحاصصة والمشاركة السياسية: لذلك لا يجري الصراع الاجتماعي هنا على حقوق الأفراد المدنية أو السياسية، وليس هذا رهانه الرئيس. إنه يجري على تقاسم موارد الدولة، مناصبها وسلطاتها، أول من يستفيد منه وجهاء الطائفة أو القبيلة وقادتها من شيوخ وأعيان. وعندما تتحوّل الدولة إلى غنيمة، والحقوق إلى محاصصة تحكمها القوة، لا يعود هناك معنى للقانون، وبالتالي للمواطنة وللحقوق والحرّيات المرتبطة بها، بما في ذلك حقوق الشعب في التنمية الاجتماعية والاقتصادية. لذلك من الطبيعي أن تكون دولة المحاصصة السياسية دولة الإهمال والتخلف والأزمة الدائمة.
وفي عصرنا الراهن، حيث تفكّكت الطوائف والقبائل إلى حد كبير، وتراجعت إمكانية إحياء العصبيات التقليدية والاستثمار فيها، يثير الصراع العصبوي على الدولة صراعاً موازياً، ربما أعنف، في حضن الطوائف نفسها على الزعامة والوجاهة المرتبطة أيضا بالإثراء. وفي هذا الصراع الموازي، يصبح من مصلحة المتنافسين على زعامة الطوائف المزايدة في التطرف والشحن الطائفي باعتبارهما مصدراً أساسياً لاكتساب الشرعية السياسية. فبمقدار ما يكون ممثلوها وحوشاً ويظهرون العداء ضد ممثلي الطوائف الأخرى تزداد شعبيتهم، وتشعر غالبية جمهورهم بأنهم الممثلون النجباء للجماعة. وهذا ما يفسّر أيضاً أن دولة المحاصصة الطائفية هي دولة الاحتراب الدائم داخل الطوائف وفي ما بينها. وسرعان ما يتحوّل هؤلاء الزعماء وممثلو الطوائف في حالات التوتر والنزاع إلى أمراء حربٍ مع مليشيات وأجندات قتالية، يستخدمون فيها جماعاتهم من أجل إعادة توزيع الموارد والثروة في ما بينهم، بحسب ما تسمح به التوازنات والاتجاهات الدولية والإقليمية. وهذا ما يفسّر استشراء الفساد الكبير الذي لا يعرف حدوداً.
وفي النهاية، وبتغييب الحقوق الفردية التي هي جوهر الثورة السياسية الحديثة، لا يبقى أيضاً معنى للقانون وسلطته. وبمقدار ما تتحوّل الدولة إلى غنيمة ويتحول الصراع الاجتماعي إلى صراع على محاصصة لا يستفيد منها في النهاية سوى زعماء الطوائف والعشائر والأقوام، لا يبقى للفرد، من كل الطوائف، سوى القشور والفتات. فكما أن المكانة التي يحتلها الزعيم مرتبطة بسعة دائرة المحسوبية، أي المحسوبين عليه، وحجم طائفته، فإن شرعية الزعماء في تمثيل الطائفة لا تستمد من نجاحهم في الدفاع عن حقوق مواطنيهم، وإنما من الحصّة التي ينتزعونها لها، أي لأنفسهم، في الدولة والمجتمع معاً.
إعادة بناء دولة على شاكلة دولة الأسد الزبائنية بذريعة الانقسامات الطائفية لن يؤسّس لدولة وسلام وأمان وتقدم للشعب السوري
هذا هو الفرق بين نظامي المحاصصة الطائفية والمواطنة الواحدة المتساوية، أي نظام المشاركة السياسية الذي يركّز على حقوق الفرد بصرف النظر عن أصله الطائفي أو الإثني، ويستمد النائب فيه قوته التمثيلية في البرلمان من نجاحه في الدفاع عن برنامج الحقوق المتضمنة في الدستور الذي هو الأرضية التي تقف عليها المواطنة. وهذا هو البرنامج الوحيد الذي يبني الروح الوطنية، ويستطيع أن يواجه نظام المحاصصة الطائفية. وهو ما عملت السلطة الاستبدادية المديدة خلال نصف القرن الماضي على اغتياله، واستكملت تدميره بحرب الإبادة الجماعية. وعلى إعادة إحيائه يتوقّف أملنا في استعادة وحدة المجتمع والدولة معاً. فكما ينتج نظام المحاصصة الحرب الأهلية ينتج نظام المشاركة السياسية الاستقرار والتقدّم المادي والمدني بمقدار ما يعزّز المساواة ويسمح بتداول السلطة.
يخطئ من يعتقد أن القصد من هذه المقالة التقليل من أهمية احترام الحقوق الجماعية للطوائف والجماعات، بما فيها القومية أو الجنسانية. على العكس من ذلك تماماً، ما هدفت إليه هو التذكير بثلاثة أمور: الأول، أن نقل الصراع الاجتماعي من ساحة السياسة والتفكير السياسي العقلاني إلى ساحة الدين والهوية والخصوصية لا يزيد من فرص الأفراد في التحرّر والجماعات في السلام الأهلي والتقدّم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وإنما يهدّد بقطع الطريق على أي أمل في التحرّر والتقدّم والسلام الأهلي. وهو حامل لخطاب الانقسام والكراهية الذي سرعان ما يتحوّل إلى حربٍ فعليةٍ في المنعطفات الصعبة، فهي حقوق ضرورية وشرعية عندما نضعها في مكانها ونضبط إيقاعها على إيقاع ضمان الحقوق الأساسية التي هي في الجوهر فردية تخصّ كل إنسان ومستقبل الشعب ككل.
والثاني، أن أصل النزاع المستمر في سورية منذ عقود، وجوهر الثورة وما دفع السوريين إلى التضحية بأرواح أبنائهم، كان ولا يزال بناء دولة المواطنة والقانون، وما تعنيه اليوم من الاحترام الدقيق للحقوق الأساسية للأفراد. وأن استمرار النزاع وتعثر الانتقال السياسي بعد التحرير يعود، في جزء كبير منه، إلى تجاهل هذا الجوهر والجهل بمطالب (وتطلعات) السوريين الذين ضحّوا بأنفسهم وأبنائهم من أجلها، وسعي بعض منهم إلى إعادة بناء نظام طوائفي شبيه بالذي تسبّب في خراب الدولة والمجتمع والاقتصاد والبؤس الذي حرض على الثورة، وهو النظام الذي يظهر كل يوم كارثيّته في الجوار القريب منا.
لا تزال الدولة/ الأمة الحديثة، حتى إشعار آخر، بالرغم من الأزمات التي تعيشها، التشكيل الاجتماعي السياسي الأرقى بين التشكيلات السياسية التي عرفها تاريخ البشرية
والثالث، كما أن إعادة بناء دولة على شاكلة دولة الأسد الزبائنية بذريعة الانقسامات الطائفية لن يؤسّس لدولة وسلام وأمان وتقدم للشعب السوري، بجميع طوائفه وأقوامه كلها، فإن بناء دويلات على شاكلة دولة الأسد على جزءٍ من الأرض السورية لن ينتج نظام مواطنة يضمن الحقوق الأساسية لأفراد أي طائفة أو جماعة أو قومية.
باختصار، خطاب المكوّنات، الذي لا يرى في الجمهور شعباً (قابلاً للتحرّر السياسي)، وإنما طوائف وعشائر متنافسة ومتنازعة، غيّب، ويغيّب كل يوم بشكل أكبر، إن لم يقتل خطاب الوطنية والمواطنة. هذا ما عمل عليه النظام البائد. وهذا هو السلاح الذي استخدمه الانتداب الفرنسي الذي ليبرّر استعماره بحجة أننا لم نكن شعباً مكتملاً (أي قادراً على توليد إرادة سياسية واعية)، وإنما طوائف وإثنيات متنازعة، لا بد من فرض الوصاية عليها لإعدادها للحياة السياسية التي تمكّنها من التحوّل إلى شعبٍ واعٍ لذاته بوصفه جماعة سياسية، وقادراً على أن يحكم نفسه بنفسه. والحال لم يعمل حكم الانتداب إلا على استغلال انقساماتنا وتعميقها لتحييد الجميع والتمكين لسيطرته الخارجية. ولا يوجد شك في أن استعادة منطق الصراع الطائفي والتركيز عليه خلال نصف القرن الماضي بعد انهيار أحلام التقدّم القومية والاشتراكية قد ردّ على حاجة حكم الاستبداد العسكري لإلغاء الحياة السياسية وإعدام السياسة وتحويلها إلى لعبة توازناتٍ تديرها السلطة، وفي السياق نفسه، إلغاء فكرة الشعب بوصفه كياناً سياسيّاً متميزاً عن الكيانات الأهلية الطائفية أو القبلية وصاحب حقوق سياسية أصيلة تخصّه كمجموع وتخص كل فرد من أفراده على حدة.
وفي المقابل، حاولتُ أن أبرز في هذا المقال مدى غنى مفهوم الشعب وانفتاحه بالمقارنة مع مفهوم الجماعة الأهلية أو الطائفة وفقره. والأهم من ذلك أن الانتماء للشعب ودولة المواطنة لا يلغي الانتماء للطائفة والدين والعقيدة أياً كانت، ولكنه يفتح إطاراً وحقلاً للتواصل والتبادل بين الأفراد أكثر رحابة ويقدم للفرد والمجتمع معاً إمكانات وفرصاً للتطور الحضاري والتقدّم الإنساني الأخلاقي والثقافي والقانوني والروحي لا تقارن. ولا تزال الدولة/ الأمة الحديثة، حتى إشعار آخر، بالرغم من الأزمات التي تعيشها، التشكيل الاجتماعي السياسي الأرقى بين التشكيلات السياسية التي عرفها تاريخ البشرية، فقد شهدت فيه المجتمعات ازدهاراً لم يسبق من قبل للحرّيات الفردية والقيم الإنسانية الكونية والعدالة وحكم القانون وتطوّر العلوم والتقنيات. وهذا ما ساهم في قيام جماعات بشرية أكثر غنىً وتنوّعاً وقدرة على تحقيق تطلعات الأفراد وضمان سعادتهم. ولا ندري ما إذا كان بإمكان المجتمعات التي أخفقت في تمثل مبادئه أن تنجح في التأقلم مع التشكيلات ما فوق القومية التي تتشكّل أمام أعيننا مشيرة إلى أزمته ومعلنة تجاوزه في الوقت نفسه.
- العربي الجديد

























