
يأخذ بعض مثقّفي السلطة على المعارضين أنهم لا يقدّمون مشروعاً سياسياً، والحقّ أن هذا المأخذ صحيح، إلا أنه يغفل عن أن السلطة نفسها لا تطرح مشروعاً سياسياً. في المحصّلة ليس من مشروع سياسي في سوريا، وما يُقال هنا وهناك هي مجرّد أفكار، جزء منها يتحلّى بالنبل وطيب النوايا، وجزء آخر يتلطّى وراء المظلومية، ليأخذ مشروعيته من عهد الأسد الذي يُفتَرض أنه انقضى، وحان وقت الابتعاد عن المتاجرة والابتزاز ببضاعته الرخيصة. لكن، خلف هذا المظهر الذي يبدو خلافاً في السياسة، هل من سياسة ممكنة حقاً في سوريا حالياً؟
يمكن اليوم الحديث عن خلاف تأسيسي لا سياسي، لأن الخلاف الفعلي ليس بين معارضة وسلطة، أو بين مشاريع سياسية واقتصادية متنافسة تُطرح للعموم من أجل الوصول إلى السلطة. ما هو موجود هي سلطة استثنائية لمدة خمس سنوات، إذا التزمت السلطة بالمهلة التي وضعتْها لنفسها. ويجدر الانتباه إلى عدم وجود آليات تزيحها، فيما لو قررت البقاء بعد المرحلة الانتقالية من دون خوض انتخابات حقيقية ضمن حياة سياسية تُرضي السوريين، كما يجدر الانتباه إلى أن شريحة واسعة من مؤيّديها تتعاطى معها كسلطة باقية؛ غير مؤقتة، وذات مهام انتقالية يجب أن تكون واضحة وصارمة.
الوضع الاقتصادي لا يصبّ في اتجاه تسهيل العمل السياسي، خصوصاً مع الأخذ في الحسبان كون الاقتصاد أساسياً في التوجّهات السياسية والاختلاف حولها. المؤكد أن للسلطة توجّهاً يخالف عهد الأسد من حيث خصخصة الاقتصاد على حساب القطاع العام، وهو ما كان يحدث جزئياً عبر خصخصة جزئية تعتمد على المحسوبيات والزبائنية، الأمر الذي يُخشى تكراره. في كل الأحوال، لا توجد قاعدة اقتصادية مستقرة تكون أساساً للسياسة، فلا نخبة من أصحاب رؤوس الأموال موجودة لتدافع عن مصالحها ولا طبقة عاملة، ولا طبقة متوسطة بينهما. ويجوز الحديث عن عدم وجود سياسات تسهّل خلق واقع اقتصادي منتِج سياسياً، وفي المقابل انعدام القوى السياسية التي تضغط لخلق الواقع المنشود.
الظروف الأمنية، على صعيد السلم الأهلي تحديداً، لا تساهم أيضاً في تهيئة بيئة استثمارية آمنة. وفضلاً عن ذلك هناك انقسام طائفي يجعل كل مجموعة منكفئة على ذاتها، ضمن مناخ متوتر وإحساس بأن الوضع على حافة المجزرة، أي أن الانقسام دموي، أو دموي مع وقف التنفيذ. وهو ما يجعل النشاط السياسي ممتنعاً بطبيعة الأحوال، ومحدود سلفاً بانقسام طائفي يستحيل تجاوزه من دون سلم أهلي مستدام وموثوق.
الكلام عن نشاط وطني سوري متعذّر، حتى قبل الخوض في إمكانية مشروع من هذا النوع. والأمر لا يتعلّق بطائفية أصيلة لدى السوريين، ولا حتى بممارسات طائفية مستمرة منذ عقود. المشكلة الراهنة هي في انعدام المقوّمات التي تطرح الاجتماع السياسي السوري على أسس واضحة وجديدة، وتشاركية. تعويم الكلام عن وجود هوية سورية أو عدم وجودها هو جزء من المشكلة لا الحل، فمفهوم الهوية تقادمَ عالمياً، ليغدو سؤالاً فردياً أكثر منه سؤالاً في الاجتماع السياسي.
الدولة المعاصرة هي في المقام الأول دولة قانون يحمي الحقوق الفردية باختلافها وتنوعها، ثم يحمي حقوق المجموعات واختلافها وتنوّعها أيضاً. ولا يوجد فيها فحص دم يقيس الهوية الوطنية لدى المواطنين، فالمواطنون مختلفون ومتنافسون بطبيعة مصالحهم ومواقعهم الاقتصادية والاجتماعية، وفي ظروف من الصراع السلمي الداخلي والسلم الخارجي لا تظهر الهوية الوطنية إلا قليلاً، وفي مناسبات من قبيل خوض الفرق الرياضية الوطنية مباريات خارجية.
قد يُقال إن صورة دولة القانون هي نموذجية غير قابلة للتطبيق حالياً، أو إنها لا تتناسب مع الخصوصية السورية، والحق أن أصحاب هذه المزاعم لا يقدّمون اقتراحات قابلة للتطبيق سوى التعايش مع الأمر الواقع. ومن ضمن الأمر الواقع في سوريا، وهذا ليس بالجديد، أن العسكرة المباشرة وغير المباشرة هي القوة المنظّمة الوحيدة، وبخلاف ما يُوحى أو يُجهَر به عادةً عن دور العسكرة في ضبط الأمن ومنع الفوضى فهي في الواقع قوةٌ تُنذر بالفوضى، ولا تبشّر إطلاقاً بالاستقرار، بل إن عقيدتها تقوم على التلويح بالفوضى فيما لو تعرّضت سطوتها للتهديد.
لا يغيّر في الأسباب الأساسية لمنع أو امتناع السياسة اختراعُ خصومات هي حقيقية بشرط ألا توضع في سياق غير موجود الآن، الخصومة بين الإسلاميين والعلمانيين مثلاً. فهذه الخصومة موجودة حقاً، لكنها لا تندرج حالياً ضمن مشروع سياسي لأيٍّ من طرفيها، لأن الظروف العامة غير سياسية أصلاً. هكذا يتغلّب الطابع الأيديولوجي للخصومة على طابعها السياسي الذي قد يكون في نظام تداولي، وتأخذ الخصومة أيضاً طابعاً جذرياً يتعلق بتأسيس الدولة، طالما يُراد تريد هندسة الدولة أيديولوجياً، فتأخذ العلمانية طابعاً نضالياً ليس من طبيعتها أيضاً بسبب الخصم.
ولا يخفى أن هناك انقسامأً أخلاقياً ثنائياً الأبعاد؛ الانقسام على خلفية جرائم وانتهاكات النظام السابق، ثم الجرائم والانتهاكات اللاحقة التي أقرّت بها السلطة الحالية، بصرف النظر عن التفاضل العددي الذي يقيمه أولئك الذين يزِنون جريمة بأخرى. أصحاب التبرير هم طرف في الانقسام المستجد، لأن تبرير الجريمة بمظلومية سابقة يبتعد كلياً عن مفهوم دولة القانون الراعية والحامية والحيادية. وقد صار مفهوماً أن العدالة الانتقالية مشروع مؤجّل، وفي أحسن الأحوال سيقتصر على بضعة مجرمين من عهد الأسد، ولن يطال الأسدية كمنظومة أخلاقية تسمح بالجريمة وتبررها بمختلف الذرائع، كما هو حال تبرير الجريمة بجريمة سابقة.
وغير بعيد عن الانقسام الأخلاقي هناك الانقسام حول الحريات الأساسية، وهو في صلب التصور التأسيسي للدولة. وفي الأصل السلطة هي التي وضعت المرحلة الانتقالية ضمن سياق إعادة تأسيس الدولة، لا في سياق الحفاظ على المؤسسات والقوانين المدنيين وتفكيك البنية المخابراتية والعسكرية السابقة فحسب. هذا النهج يُفرغ المرحلة الانتقالية من مضمونها الذي كان متوقعاً قبل شهور، أي بوصفها جسراً نحو حياة سياسية تُتوَّج بنظام ديموقراطي تداولي.
لقد قامت الثورة في آذار 2011 من أجل استعادة حق السوريين في الفضاء السياسي، ولم يكن الأسد الابن حينها قد ارتكب المجازر التي راح يرتكبها بعد، فأججت نقمة واسعة عليه. وألا تكون السياسة ممكنة راهناً، وألا يكون هناك توجُّه صريح ملموس نحو جعلها ممكنة، فهذا يعني أن الواقع لا يسير في اتجاه تحقيق الهدف الذي من أجلها دُمِّر البلد. ليست السياسة حرية رأيٍ فقط، هي تهيئة الظروف لممارستها وهي بقدر ضرورتها الآن في سوريا غير ممكنة فعلياً. لقد كتب هيغل يوماً ما معناه أن الحرية تتحقق من خلال فهم الضرورة والعمل بموجبها.
- المدن


























