تتكرر عمليات الثأر والانتقام والقتل والاختطاف في المشهد السوري الهش بسبب غياب آلية واضحة وعملية لما بات يُعرف بالعدالة الانتقالية، وأصبحت الأصوات التي تنادي بالعدالة الانتقامية حاضرة في وقائع المشهد اليومي السوري وإن لم تظهر إعلامياً، وهذا ما خلق مناخًا من الاضطراب والفوضى تنتظره وتعبث به شريحة تحترف الجريمة واقتناص الفرصة في هذا الوضع المخلخل بعيداً عن مفاهيم العدالة أو الصراع السياسي. وهذا ما تعجز أجهزة الأمن على ضبطه حتى هذه الساعة، خاصة أن ذوي الضحايا السابقين والمغيبين على أيدي أجهزة الأمن الأسدية وهم بمئات الألوف لم ينالوا ما كانوا ينتظرون حتى بالحدود الدنيا، وزاد المشهد بؤساً ظهور بعض أزلام النظام السابق في أحياء دمشق وغيرها وقد نعموا بتسوية تشي بالعفو عن جرائمهم. ليعلو صوت المقهورين: هل تملك الحكومة المؤقتة العفو والتجاوز عن حقوق أبنائهم المقتولين والمغيبين حتى اليوم تحت أي ذريعة؟ سؤال من الصعب بمكان الإجابة عنه، سيما أن هؤلاء المعفو عنهم من أصحاب الملايين التي نُهبت أصلاً من المال العام والخاص. من الصعب جداً وربما كان من المخزي أيضاً أن نطالب هؤلاء الضحايا وذويهم بالصفح البارد، في الوقت الذي يعيش فيه الآلاف منهم في بيوت مهدمة أو في الخيام، بينما ينعم بعض رموز النظام البائد بأموالهم التي يعرف الجميع مصدرها.
هذه الإشكالية المعقدة بين حقوق المظلومين ومصلحة الدولة في إرساء الحد الأدنى من الأمن والاستقرار تُحيلنا مرة إثر أخرى لجدلية الأولوية بين الأمن والاستقرار وبين تطبيق العدالة وتقديم الحقوق على أي شيء آخر، وكأن السعي للأمرين معاً ضرب من ضروب المحال. الأمر الذي سيتركنا في حلقة معيبة حيث تدور دوائر الانتقام والعنف وتخلق بذلك وضعاً مضطرباً يحمل الكثير من التعليلات ويُكرِّس حالة النزاعات الاجتماعية العميقة والتي تجعل من حلم السلم الأهلي وقيام المصالحة الاجتماعية مجرد هراء ثقافي يدور عبر المنصات والصالونات الأدبية.
تكمن أكبر الإشكاليات في هذا الصدد في عجز الحكومة المؤقتة عن إنفاذ أي خطوة عملية من شأنها أن تمضي بهذا الملف الشائك خطوة واحدة للأمام. فإنشاء المحاكم المتخصصة وتكليف مئات المحققين والقضاة المُفرَّغين لهذا الشأن، وبناء فريق من الموثقين، وتوفير جهاز أمني يمتلك القدرة على تقديم المتهمين للعدالة وإجراءاتها، وضمان عدم قيام الأطراف المتهمة بردود أفعال مقاومة قد تزعزع الحالة الهشة أصلاً، كل هذا يحتاج إلى مقدرات مالية هائلة وبرنامج عمل طويل لا تمتلك الحكومة الحالية الشطر الأيسر منه. الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه لإفلات المجرمين والقتلة من العقاب. وهذا ما يعدُّه آخرون شرعنة منطقية للمضي في طريق الثأر والانتقام كسبيل وحيد للعدالة. وهنا ستُستغل هذه الظاهرة المخيفة لتتحول عبر شبكات إجرامية هي متوفرة بالأصل قبل سقوط النظام، لتتحول إلى نمط حياة كريه سنحتاج لثورة اجتماعية كبيرة للقضاء عليه، وسينحدر المجتمع ساعتها إلى نمط ما قبل الدولة، وسيعزز هذا النمط المتخلف وجوده وسيكون عقبة حقيقية أمام نشوء دولة مستقرة.
جميع ما سلف أفضى إلى تآكل الثقة بقدرة الحكومة المؤقتة على إيلاء هذا الملف المحوري ما يلزمه من الاهتمام، وبالتالي نمو الإحساس بالظلم المستمر. وهذا ما ساهم بشكل كبير في تولي من يملكون السلاح مهمة الثأر تحت مسميات عدة أهمها ملاحقة المجرمين والمخَبِرين والفاسدين وتقديم بعض العزاء لذوي الضحايا. كثير من هذه الآراء تمتلك حجتها المقنعة، لكنها بذات الوقت تُحيل المجتمع السوري إلى بؤرة اقتتال وفوضى لا يمكن ضبطها ولا التكهن بمقاصد العابثين بها، ولا بما يمكن أن تسفر عنه في المدى المنظور. ومن المعروف من خلال تجارب بلدان أخرى عانت من ذات الأمر أن الجريمة المنفلتة والمنظمة تتصيد الفرص الغنية في هذا الانفلات الأمني، وتبني كيانات مُجرِمة تتغلغل في بنية المجتمع الموتور أصلاً لتجعل من مسألة الاستقرار وانتظار أن تتسلم الحكومة مهامها في إنفاذ العدالة مجرد لُعاعة تُعلل بها الحكومة شعبها وتشاغله، كما تشاغل الأم الفقيرة طفلها بسلق الحصى.
يستمر الحصار بين مسؤولية الحكومة عن هذه الفوضى ولو من الناحية القانونية أو النظرية، والعجز الحقيقي والمفسَّر عن قيام هذه الحكومة بمسؤولياتها. ورُب قائل: إن لم تكن هذه الحكومة قادرة على النهوض بهذه المسؤولية فلتتنحى ولتحل محلها حكومة أخرى. وهذا في واقع الأمر ضرب من ضروب التوهم، لأن أي حكومة يمكن أن تأتي في هذا الظرف الإقليمي والدولي والانهيار الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي والعمراني والافتقار المفرط إلى أدنى المتطلبات المالية اللازمة للبدء بعملية النهوض، سيكون مصيرها الحتمي الفشل الذريع الذي يطبع الشأن السوري عامة. وأخشى ما يخشى أن نقف يوماً لنكرر العبارة التي تصف حالنا في مقبل الأيام: “إن الأمن مستتب، لكن القيم والعدالة ضائعة”. وهذا ما سيترك باب الفوضى والثأر والاضطراب الاجتماعي مفتوحاً على مصراعيه. فالعدالة مهما كانت مكلفة، ومهما بُذل من جهد ومقدرات في سبيل تحقيقها، هي نقطة الأمان التي تسبق الاستقرار وتمهد له، وهي اللبنة الأولى في بناء السلام المنشود.
- تلفزيون سوريا
























