
من الخطأ التعامل مع انقسام السوريين باعتباره ظاهرة استثنائية، أو غير طبيعية، إذ إن الطلب المشروع على إجماعات وطنية لا يخفف من ذلك، بل إن الوصول إلى هذا المبتغى يتطلب الاعتراف بواقع الانقسام، وإدراك أسبابه، وتداعياته، في سبيل تجاوزه.
يستمد الانقسام تعبيراته، أو تمثلاته، أولاً، من افتقاد السوريين للدولة، بما هي دولة مؤسساته وقانون، ومن افتقادهم لمكانة وحقوق المواطن. ثانياً، من حال المحو السياسي الذي تعرض له المجتمع السوري، وضمن ذلك غياب كيانات سياسية فاعلة. ثالثاً، من بقاء السوريين في حيز الانتماءات، أو العصبيات الطائفية والاثنية والعشائرية والمناطقية، وهي جماعات عمودية، تسهم في إعاقة تشكل المجتمع أو الشعب. رابعاً، من شدة القمع الذي تعرض له الشعب، أو معظم الشعب، الذي تعرض إلى نوع من حرب الإبادة، التي جعلت من عصبية السوريين، تنشد بين معارضة النظام السابق، وبين الموالاة له.
بعد انهيار النظام، وخلاص السوريين من نظام الإبادة، ظلت الاستقطابات السابقة تفعل فعلها في مجتمع السوريين، بواقع بقاء مصادرها، مع تنويعات سياسية مستجدة، تعكس الواقع الجديد.
هكذا ثمة معارضة للقيادة الانتقالية في سوريا، وكل معارضة هي مشروعة، من وجهة نظر حرية الرأي والتعبير، ومن وجهة نظر التشجيع على التفكير النقدي، وعدم ممالأة السلطة، ومن أجل تعزيز الرقابة عليها، وترشيد مواقفها، هذا من ناحية مبدئية.
بيد إن مشكلة المعارضة السورية اليوم أنها غير فاعلة، أو يمكن القول أنها لا تستند إلى حاضنة شعبية، أو لا تعبر عن نفسها في كيانات سياسية، وفوق كل ذلك فهذه المعارضة لا تستطيع أن توصل رأيها، أو مواقفها إلى الشارع السوري، بغض النظر عن رأينا بصوابية المسائل التي يطرحها هذ الطرف أو ذاك، أو لا صوابيته، هذا بغض النظر عن لا واقعية بعض ما يطرح أصلاً.
أيضا، يلاحظ أن المعارضة، والقصد المعارضين كأشخاص أو ككتل سياسية، بغض النظر عن فاعليتها أو حجمها، لا تتعاطى مع الواقع السوري، أو لا تتمثله في تفكيرها السياسي، بقدر ما تحكم رؤيتها الأيديولوجية في التعامل مع القيادة الجديدة المؤقتة، أو انها تتعاطى معه وفق طريقتها القديمة، معارضة ضد نظام، بمعنى أنها ليست صاحبة مشروع بديل أو منافس، وكأنها تنظر إلى الأمر على أنه سلطة بديلة عن سلطة، أي تلك المعارضة التي تعودت عليها، وكلا الأمرين لا يقدمان شيئاً في سبيل بلورة معارضة حقيقية، وفاعلة وراشدة، وقادرة على الجسر بين رؤاها السياسية والمجتمع السوري.
فوق ما تقدم، فإن هذه المعارضة لا تأخذ في اعتبارها الأولويات أو الحاجات الملحة للمجتمع السوري، التي تتطلب تعزيز الأمن والاستقرار والاطمئنان أولاً، ورفع مستوى المعيشة ثانياً، وبناء الدولة، وتوطيد مؤسساتها ثالثاً.
أما من طرف القيادة الانتقالية، فإن ما تقدم لا يعني عدم صوابية الآراء المعارضة، ولا يفهم من ذلك أنه يجب رفضها، أو نبذها، بل إن هذه القيادة، وكل الجهات المسؤولة في الدولة، معنية بالإصغاء لوجهات النظر النقدية، والمعارضة، وتقديم الأجوبة المناسبة عليها، لأن ذلك هو شرط تقويم الحكم، وشرط تعزيز الثقة بين الدولة، أو بين السلطة والمجتمع.
في المقابل، ثمة طرف الموالاة، ومشكلة هذا الطرف أنه ينقلب على المبادئ الأساسية التي انطلقت من أجلها الثورة السورية، وهي قضايا الحرية والمواطنة والديمقراطية ورفض الظلم والضيم، وذلك برفضه الإصغاء لأي نقد أو لأي رأي معارض، ووصمه باتهامات شتى، أو التشكيك بأصحابه.
هذا يعني أن بعض أطراف الطيف الموالي تتخلى عن الأسس أو القيم التي ثار من أجلها أغلبية الشعب السوري، وهذا التخلي لا يقوي النظام، الذي يظنون انهم يزودون عنه، وإنما يضعفه، كما أنه يوسع الهوة بين الحكم والشعب، ما ينجم عنه كسر فكرة الحرية والإجماعات الوطنية وشيوع الفساد السياسي والإداري والأخلاقي.
على ذلك، فإن انقسام السوريين على النحو المذكور، وبطريقة عمودية، طائفية واثنية ومناطقية وعشائرية وأيديولوجية، هو انقسام ناجم عن الأمية السياسية التي تهدف إلى المحو السياسي الكامل، وضعف الثقافة السياسية، والافتقاد لتجربة كفاحية، كما إنه نتاج الانفصام عن الواقع، والآراء المسبقة، عند أغلبية المعارضين والموالين، إذ البديل عن ذلك هو بناء كيانات سياسية راشدة وفاعلة ووازنة، في المجتمع، وحينها تغدو الانقسامات حول السياسات والمصالح والحاجات. فكل طرف يقدم وجهة نظره، أو رؤيته، في مجالات السياسة والاقتصاد والإدارة والثقافة، وبناء المجتمع، وتحديد مكانة السوريين داخلياً بين بعضهم وأمام سلطاتهم، ومكانة سوريا على الصعيد الخارجي.
- المدن






















