في حمأة الصراع بين الشعب المنتفض والسلطات القمعية، تختفي الظلال المتدرجة وتتحوّل المواقف إلى خطوط قاطعة، فإمّا موقف واضح ناصع في انحيازه الكامل للحرية وللثورة، وإمّا سير في ركب المستبدين بولاء أعمى للسلطة الحاكمة، مصدر المصالح المؤقتة والاستقرار الهش.
في الوقت الذي ظهرت فيه شريحة رمادية واسعة التزمت الصمت ولم يَعْلُ لها صوت، كانت هذه الطبقة ذات حمولة سلبية ثقيلة على الثورة وأبنائها، وأحدثت شرخاً في الوعي الجمعي، وصار الانحياز للثورة أو للسلطة موضوعاً نسبيّاً يحتمل حضور وجهات نظر متباينة.
ينصبُّ الحديث هنا عن أولئك الذين لم يدعموا الثورة ولا كانوا من أنصارها، بذات الوقت الذي لم يُصفِّقوا فيه للمستبد وأعوانه ولم يكونوا شركاء في الجريمة التي وقعت على الشعب السوري عامةً، وكان مبعث هذا الموقف “بَيْن بَيْن”، إمّا الخوف على الحياة والمستقبل، وإما لقناعتهم أن الثمن سيكون باهظاً.
من زاوية أخرى، يجب أن نميز بين مَن خرج متظاهراً مخاطراً بحياته أو أكره على حمل السلاح وخاض غمار الثورة بشكل مباشر، وبين مَن خرج من البلاد أو كان مَنفِيّاً خارجها بالأصل..
هذا الموقف الصامت الذي كان خياراً أو إكراهاً أفرز رغبة في إلقاء الاتهامات التي بلغت حدَّ التخوين في كثير من الحالات، فهل كان الصمت الرمادي طوق النجاة الفردي الذي تمسَّكت به شريحة اجتماعية واسعة من السوريين، في حين خاضت شريحة أخرى معركة الفناء أو البقاء في مواجهة سلطة متغوِّلة لم تدَّخر أي وسيلة لسحق الشعب المقاوم وتدمير البلاد؟
من زاوية أخرى، يجب أن نميز بين مَن خرج متظاهراً مخاطراً بحياته أو أكره على حمل السلاح وخاض غمار الثورة بشكل مباشر، وبين مَن خرج من البلاد أو كان مَنفِيّاً خارجها بالأصل، وشكَّل بنى سياسية معارضة أو كيانات إعلامية خاضت معركتها مع النظام عبر أدواتها التي تنافس السلاح في تأثيرها، وبين مَن خرج تجنباً للمخاطر التي تلوح في الأفق خلال النزاع الدامي بين السلطة والخارجين عليها، لكن موقفه الأخلاقي ألزمه التعبير عن موقف رافض ومقاوم لهذه السلطة، وكان جُلُّ فعله التعبير عبر منصات التواصل.
هذه المطالعة لا تسعى لإصدار أحكام أخلاقية أو قِيَمِيَّة، إنما تسعى للغوص في أعماق تلك المواقف المتباينة والوقوف على بواعثها، ومعرفة التداعيات الوجودية والأخلاقية التي عكستها تلك المواقف الرمادية على المشهد السوري عامة، مع التفهم العالي والمشروع لدوافع الحياد أو الصمت كآلية لحماية الذات والبقاء في الحيز الآمن خلال فترات النزاع؛ بمعنى آخر أن يكون الصمت والموقف الرمادي آلية من آليات تفادي المخاطر، ليس إلَّا.
يَحسُن بنا أن نعترف أن تحليل ظاهرة الصامتين والرماديين تتجاوز مسألة الاتهام بالتقاعس أو التخاذل؛ فالوضع الذي عاشه السوريون بما ينطوي عليه من مخاطر تتحدى في كثير من الأحيان غريزة البقاء والتمسك بالحياة، تلك الغريزة التي تتفوق في لحظة من اللحظات على أقوى دافع أيديولوجي أو سياسي، في مواجهة سلطة شمولية قمعية لا تُقيم وزناً لأي قيمة من قيم الإنسان والحياة، ولا يردعها قانون عن ممارسة أعتى درجات الانتقام، وهذا ما عشناه وشهدناه كسوريين بشكل بادِي القسوة والوضوح.
اليوم بعد سقوط النظام الذي كان عِلَّة كل فساد وشر وجريمة في سوريا، باتت مسألة إعادة النظر والركون إلى تصورات متوازنة هادئة تخدم السلم الأهلي وتمهد لأدنى عتبات التعافي الاجتماعي، عبر تفهُّم مواقف الآخرين الذين لم يُوغلوا في الدم السوري ولا مارسوا فعل الإيذاء المباشر أو غير المباشر للسوريين في سِنيّ ثورتهم، أمراً بالغ الأهمية، في الوقت الذي يحتاج فيه جميع السوريين لحشد أقصى طاقاتهم مجتمعين لعبور هذا النفق المظلم الذي ما زلنا في بداياته.
ففي الوقت الذي كان خيار الثورة والانخراط في صفوفها خياراً ينطوي على قيمة أخلاقية عالية، فإنّ التزام الصمت والموقف الرمادي لدى الكثيرين، حسب رؤيتهم، كان محكوماً بالخوف المُفَسَّر أو بالعقلانية التي آثرت عدم خوض مغامرة صِفرية قد تُفضي للقتل أو الاعتقال، كما أن الكثير من الصامتين كان مُحمَّلاً بتخوُّف كبير ينبغي أن يكون مفهوماً من المنعطفات التي آلت إليها الثورة، والتي كان ضياع البوصلة فيها واضحاً في كثير من الحالات، مما أفرز لدى الكثيرين مواقف رافضة لكلا الفريقين. جميع هذا جعل من إمكانية الحُكم القَطْعي على جموع الصامتين أو الرماديين أمراً بالغ الصعوبة.
بالرغم من هذا التعقُّل، فإنّ قرار الصمت والموقف الرمادي كان له بالغ الأثر على الزلزال الذي هزَّ بنية المجتمع السوري، في وقت كان الاستقطاب الحاد الذي فرضته الثورة في أوجه.
كان الصمت يُقرأ سياسياً واجتماعياً، بشكل أفضى إلى شروخ عميقة في أواصر الثقة بين أفراد المجتمع الواحد بل والعائلة الواحدة، فهذه الشريحة الرمادية الصامتة مُنيَتْ، بعيد سقوط النظام في شطرها الأوسع، بالشعور بالخذلان وباتت تعاني من عزلة صامتة وغير مُعلَنة، لكنها تُحاصرها وتُحاسبها.
لم تكن قضية الرماديين الصامتين مجرد حاشية ثانوية في المشهد السوري، بل هي إحدى العقبات التي ينبغي تجاوزها بتسامح وتعقُّل بالغين..
فكيف لإنسان شهد هذا القدر الهائل من القتل والتدمير أن يبقى على الحياد؟ في الوقت الذي لم يَقبَل بهم النظام الذي يتشكَّك في ولائهم، ولم يكونوا مصدر ثقة لدى قوى الثورة وأفرادها الذين اعتبروهم حلفاء صامتين للنظام.
لقد ساهمت طبقة الرماديين في إطالة أمد الصراع وتأخير حسمه، وبالتالي وقوع عدد أكبر من الضحايا، ومن المعلوم أنه في زمن النزاعات أو في الحروب والثورات يُعتبر الموقف الصامت مُثقِلاً لشرعية الوضع القائم، وتتم ترجمته دوليّاً وإعلاميّاً كمؤشر على غياب الإجماع الوطني.
غياب الشرعية هذا أتاح للنظام أن يُقدِّم نفسه للمجتمع الدولي كدولة تُواجه الإرهاب، في الوقت الذي قدَّمت فيه الكتلة الرمادية الصامتة إشارات تُفيد بأن الثورة لا تُمثِّل غالبية السوريين.
لم تكن قضية الرماديين الصامتين مجرد حاشية ثانوية في المشهد السوري، بل هي إحدى العقبات التي ينبغي تجاوزها بتسامح وتعقُّل بالغين، فمسألة إعادة بناء المجتمع السوري لن تقتصر على إنفاذ ما يمكن إنفاذه من فصول العدالة الانتقالية وإعادة الإعمار المادي، بل سيكون علينا كسوريين مواجهة القضية الأصعب وهي إعادة بناء الثقة التي تهدَّمت بين السوريين الثائرين والصامتين، وربما تكون أهم مصالحة يحتاجها السوريون اليوم هي بين هاتين الشريحتين.
- تلفزيون سوريا






















