رغم كل النجاحات المدوّية التي تحرزها الدبلوماسية السورية اليوم على المستوى الخارجي والعلاقات الدولية، ورغم كل التفاؤل الذي تحققه حكومة الرئيس أحمد الشرع لكثيرين ممّن يثقون بها، إلا أن الشكوك والمخاوف من المستقبل لا تزال ترقد فوق صدور كثيرين ممّن يتشكّكون في نوايا السلطة الجديدة وقدرتها على الوفاء بمتطلبات الداخل كما تفعل مع الخارج.
وبنظرة موضوعية وتحليل واقعي للظروف التي تمرّ بها سوريا، لا نستطيع أن نتهرب من الإقرار بأننا نواجه مرحلة حساسة وخطرة لا نعرف إن كنا سنعبرها بسلام، على أمل الوصول إلى بلد مستقر وآمن بعد أربعة عشر عاماً من القمع والقتل والدمار والتشرد والاعتقال وإرهاب الدولة الذي مارسه الأسد بأقسى أشكاله خلال فترة الثورة، ناهيك عن القمع والعنف الذي دام لأكثر من خمسين عاماً في ظل حكم عائلة الأسد.
ورغم بعض الإنجازات المهمة على مستوى الداخل التي أحرزتها القيادة الجديدة في أقل من عام على توليها مقاليد الأمور في سوريا، والتي لا تزال لا ترقى إلى مستوى المأمول، فإن حلم السوريين لا يزال مهدداً بالاختناق نتيجة أخطاء عديدة ارتكبتها السلطة الجديدة بالتزامن مع إنجازاتها، فضلاً عن أخطاء كبيرة ارتكبتها الأطراف المناوئة لها أيضاً، سواء فيما يتعلق باتخاذ المواقف أو ما يتعلق بالأخطاء الميدانية والاعتداءات على الخصوم وأحياناً ارتكاب جرائم. كل ذلك أدى إلى شرخ وطني عميق تعمل الحكومة الحالية جاهدة – كما تقول – على ترميمه، منطلقة من الاعتراف بأخطائها وعلى أساس مفهوم المواطنة. بينما يدّعي معارضوها أنها لا تفعل ذلك بجدية، بل إن كل طروحات الحكومة ما هي إلا مجرد كلام للاستهلاك الداخلي والخارجي، وأنها (السلطة) لا تفعل ما يجب عليها فعله، بل على العكس تماماً فهي ماضية في مشروعها ضد كل المكونات التي لا تنتمي إليها.
في هذا الواقع المتأزم والملتهب والقابل للانفجار في أية لحظة، تقع المسؤولية على القيادات من كل الأطراف المتنازعة في ألّا تستغل المظلوميات كذريعة لتحويل الواقع السياسي الحالي إلى صراع على السلطة.
وفي مقابل اعتراف السلطة بأخطائها – ولو شكلياً – لا نجد لدى مناوئيها أي مبادرة للاعتراف بأي خطأ، بل على العكس تماماً، فالمعارضون يصدرون مواقفهم على أنها الفعل الوطني الوحيد والمنزّه عن أي خطأ، وهو أمر يلفت الانتباه ويستدعي مراجعة عميقة. فأن تكون خارج السلطة لا يعني أنك منزّه عن الخطأ، وأن من حقك أن ترى أخطاء السلطة وتغضّ الطرف عن أخطائك أو تصدرها على أنها مواقف وطنية بحتة.
تلك الفجوة العميقة بين السلطة ومعارضيها تحولت بالتدريج إلى حالة عداء مطلق ومعلن من قبل بعض الأطراف كما هي الحال لدى فصائل السويداء المؤيدة للشيخ حكمت الهجري، وكذلك عند مجموعات من قيادات الطائفة العلوية، وحالة عداء مبطّن كما هي عند كثير من أبناء الأقليات، وإلى حالة مراوغة وتلكؤ وشراء للوقت والمراهنة على الزمن كما هي الحال لدى “قسد”، فضلاً عن حالة الرفض المطلق والعداء المطلق التي يبديها معظم المنتمين إلى التيار الليبرالي والعلماني الذين يرفضون هذه السلطة رفضاً تاماً ولا يتوقفون عن التحريض عليها، استناداً إلى أيديولوجيتها وخلفيتها الجهادية بشكل أساسي.
على مستوى المناطق المتضررة، وتحديداً على المستوى الشعبي، تبدو حالة التخوف والرفض وحتى العداء مفهومة، فالأخطاء والانتهاكات التي وقعت في الساحل أولاً ثم تأكدت في السويداء وسّعت دائرة الخوف والقلق والتشكيك لدى المواطن السوري المنتمي إلى الأقليات، ولا سيما في ضوء حالة الذعر والرعب التي أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في نشرها، سواء من خلال الحقائق أو المبالغات أو التلفيقات والإشاعات التي تم ترسيخها كحقائق.
في ظل هذا الواقع تواجهنا مظلوميات متعددة، إحداها قديمة كمظلومية الأكراد (الشعب الكردي) الذين تم قمعهم واضطهادهم في عهد الأسدين، ومظلوميات جديدة لدى المكوّن العلوي والدرزي لا يمكن إنكارها أو التشكيك بواقعيتها. وعلى هذه المظلوميات تلعب القيادات السياسية التابعة لكل طرف وتستند إليها أيضاً في مطالبها المتعلقة إمّا بالفيدرالية أو الانفصال أو – في أكثر حالاتها تشدداً – الاستقلال التام عن سوريا والإعلان الرسمي عن تشكيل كيان غير سوري على الأرض السورية، وعن انتماء جديد مقطوع الصلة تماماً بالجغرافيا السورية وبالشعب السوري، كما هو الحال لدى مجموعة الهجري في السويداء.
في هذا الواقع المتأزم والملتهب والقابل للانفجار في أية لحظة، تقع المسؤولية على القيادات من كل الأطراف المتنازعة في ألّا تستغل المظلوميات كذريعة لتحويل الواقع السياسي الحالي إلى صراع على السلطة. والواقع أن مراوغة بعض تلك القيادات كما هي الحال لدى “قسد”، وتعنت قيادات أخرى ورفضها لأي مبادرة حوار وإعلانها العداء التام والقطيعة النهائية مع دمشق، كما هي الحال لدى الشيخ الهجري ومجموعته، والشخصيات والتجمعات التي تتحدث باسم الطائفة العلوية في الخارج والتي تحاول كسر الهدوء النسبي بين أهل الساحل والإدارة الجديدة، كل ذلك يؤكد أن هدف تلك القيادات هو الصراع على السلطة واستثمار الظلم الذي وقع على فئات من السوريين لخدمة هذا الهدف، وهو أخطر ما يمكن أن يواجه سوريا في هذا التوقيت، حيث يمكن أن يجر البلاد إلى أحد احتمالين: إما حرب أهلية لا تبقي ولا تذر ولا يمكن التنبؤ بنهايتها، أو الذهاب إلى التقسيم، وهذا الاحتمال سيكون أخطر من الأول لأن التقسيم لا يعني انتهاء الحرب الأهلية بل سيزيدها استعاراً وامتداداً على كامل الجغرافيا السورية.
بالطبع تتحمل السلطة بدورها جزءاً كبيراً من المسؤولية، وربما الجزء الأكبر في ضمان عدم جر البلاد إلى هذا المأزق، ولكنها في النهاية قد تدخل كطرف في هذا الصراع باعتبارها السلطة القائمة، وبحكم رصيدها الشعبي الكبير الذي لا يزال يتعامل معها على أنها القوة التي أسقطت الأسد، أي حولت ما كان مستحيلاً إلى واقع، وهو أمر لا يمكن نكرانه بصرف النظر عن نظريات المؤامرة ونظريات الاستلام والتسليم، فسقوط الأسد سيبقى حدثاً مسجلاً باسم قيادة العمليات العسكرية، أما الظروف الدولية والإقليمية والتحالفات والدور الخارجي لذلك السقوط فستبقى مجرد تفاصيل.
بعد مضي سنتين على الثورة السورية ونشوء صراع مسلح، لم يعد المجتمع الدولي يتحدث عن حقوق ومظلوميات، بل راح يصنف الحدث السوري على أنه حرب أهلية.
ليس أمامنا كسوريين رفاهية الانحياز والاشتراط والرفض والعداء، فحتى لو تمكنت القوى المناوئة للشرع من إسقاطه، ستدخل تلك القوى في صراع جديد مع من يتبقى من الأطراف الأخرى، ولا سبيل أمام السوريين إلا الحوار المنطلق من الهاجس الوطني وليس من هاجس الوصول إلى القصر الجمهوري، وذلك لا يعني أبداً التخلي عن المظلوميات أو إهمالها أو نسيانها، بل المطالبة بجعلها جزءاً من الحوار والتأكيد على ضرورة تحقيق العدالة والتخلي عن فكرة الثأر والثأر المضاد، لأن ذلك سيتحول إلى مسلسل لا نهائي الحلقات.
أمام سوريا اليوم تحديات لا يمكن تجاوزها إلا بإجماع السوريين على قرار تجاوزها، وعلى رأسها تحديات الداخل فيما يتعلق بالاستقرار والأمن والوفاق الاجتماعي، والتحديات الاقتصادية العميقة، وكذلك إعادة الإعمار، وتحديات خارجية كبرى على رأسها القوى الأجنبية المتعددة الموجودة على الأرض السورية وطريقة التعامل معها للوصول إلى تفاهمات تفضي إلى جلائها، وكذلك الخطر الأكبر المتمثل في طموحات إسرائيل في استغلال هشاشة الوضع السوري لتحويل حلمها في قضم الأراضي السورية إلى واقع. كل تلك التحديات يمكن أن تتحول إلى خسائر فادحة لا يمكن تعويضها، ويمكن تلخيصها في خسارة وطن.
بعد مضي سنتين على الثورة السورية ونشوء صراع مسلح، لم يعد المجتمع الدولي يتحدث عن حقوق ومظلوميات، بل راح يصنف الحدث السوري على أنه حرب أهلية، وتم اتهام السوريين من كل الأطراف بأنهم يساهمون في تدمير وطنهم. واليوم سنجد أنفسنا أمام مرحلة جديدة من مراحل استكمال التدمير إن بقي التعنّت سيد الموقف. ليس ثمة فرص كبيرة أمام السوريين لاسترداد بلدهم، الفرصة الوحيدة تأتي من خلال هاجس وطني قبل أي هواجس شخصية وسلطوية، ويجب أن يتحول الصراع من صراع على سوريا إلى صراع من أجل سوريا، وهو المنفذ الوحيد الذي يضمن عبوراً آمناً مهما كان الثمن مرتفعاً.
هناك حاجة ماسة إلى تقديم تنازلات مهما كانت مؤلمة وقاسية، وهذه التنازلات التي يمكن أن تقدمها الأطراف المختلفة في هذا التوقيت ستكون تنازلات مشرّفة وليست مذلّة كما يتوهم البعض، لأنها تنازلات من أجل سوريا، وسيتم تسجيلها في التاريخ على أنها حالة بطولة مطلقة تم من خلالها إنقاذ وطن من الضياع، ولن يتم النظر إليها لاحقاً كحالة خضوع أو ذل. إنه امتحان حقيقي للسوريين، ويا له من امتحان.
- تلفزيون سوريا























