حمل اللقاء في طيّاته رسائل متعدّدة الاتّجاهات. من جهةٍ، عكس استعداد واشنطن للتعامل مع وقائع الميدان كما هي، لا كما كانت تتمنّى أن تكون. من جهةٍ أخرى، منح النظامَ السوريّ مساحة رمزيّة من الاعتراف لم يكن يحلم بها قبل أعوام قليلة. الصورة التي جمعت ترامب والشرع كانت، بحدّ ذاتها، إعلاناً غير مباشر لتغيير في مقاربة الغرب للأزمة السوريّة.
تعليقات صحافيّة متباينة
تعاملت الصحافة الغربيّة مع اللقاء بعيون متباينة. قرأت وسائل إعلام أميركيّة بارزة مثل “واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز” الحدث من زاوية “الواقعيّة السياسيّة” التي تفرض على الإدارة الأميركيّة الانفتاح على أطراف كانت حتّى وقت قريب موضوعة في خانة الخصومة. في المقابل، تناولت صحف أوروبيّة الحدث بقدر من القلق، معتبرة أنّ الصورة شكّلت “تبييضاً” رمزيّاً لصفحة لم تُطوَ بعد في الذاكرة الغربيّة.
لكن خلف هذا الجدل الإعلاميّ بدا واضحاً أن اللقاء شكّل بداية لتبدّل أعمق في لغة الخطاب الغربيّ تجاه سوريا. بينما كان الحديث سابقاً يتركّز على “العزلة والعقوبات”، صار اليوم يدور حول “إعادة الإدماج” و”فتح القنوات”. لا يمكن عزل هذا التحوّل عن رغبة واشنطن في إعادة هندسة التوازنات في الشرق الأوسط، في ظلّ صعود أدوار إقليميّة جديدة، وتراجع شهيّة الغرب للتورّط العسكريّ المباشر.
يدرك الشرع أنّ ظهوره في البيت الأبيض يمثّل مكسباً سياسيّاً ضخماً يعيد فتح أبواب التواصل مع عواصم كانت أغلقتها لسنوات
حوار الضّرورة
اللافت أنّ البيت الأبيض لم يقدّم اللقاء كاختراق أو مفاجأة، بل كجزء من “حوار الضرورة”. تعكس هذه اللغة إدراكَ الإدارة الأميركيّة أنّ مرحلة القطيعة الطويلة لم تعُد مجدية، وأنّ التعامل مع دمشق الواقعيّة هو مدخل لضبط الإيقاع الإقليميّ، وليس لتكريسه. صمد في موقعه النظام السوريّ، على الرغم من الضغوط والعقوبات، ونجح في فرض نفسه كأمر واقع لا يمكن تجاوزه في معادلات الأمن الإقليميّ، وخصوصاً في ملفّات اللاجئين ومكافحة الإرهاب وإعادة الإعمار.
في المقابل، يدرك الشرع أنّ ظهوره في البيت الأبيض يمثّل مكسباً سياسيّاً ضخماً يعيد فتح أبواب التواصل مع عواصم كانت أغلقتها لسنوات. منحه اللقاء ما يمكن تسميته بـ”الشرعيّة الرمزيّة”، وهي شرعيّة لا تصدر بقرار رسميّ، بل تُصنع عبر الصورة والإعلام ولغة المشهد العامّ. السياسة في زمن الإعلام لم تعُد تنتظر البيانات المشتركة، بل تُصاغ من خلال ما تلتقطه العدسات وما يُقال بين السطور.

وصف عدد من المراقبين الأميركيّين اللقاء بأنّه “لحظة اختبار” للسياسة الخارجيّة الأميركيّة، التي تحاول تحقيق توازن بين الواقعيّة والضغوط الأخلاقيّة. يواصل ترامب، المعروف بميله إلى الصفقات أكثر منه إلى المبادئ، نهجاً يرى السياسة الخارجيّة بوصفها مجالاً للمساومة لا المواجهة. بالنسبة له، قد تكون إعادة فتح القناة مع دمشق ورقةً في سياق أوسع يشمل تقليص نفوذ إيران وموازنة الحضور الروسيّ في المنطقة وتهيئة الأرضيّة لتفاهمات اقتصاديّة وأمنيّة لاحقة.
في الوقت نفسه، كان لهذا اللقاء أثره في الداخل الأميركيّ. أثار نقاشاً واسعاً بين أعضاء الكونغرس في حدود البراغماتيّة السياسيّة، ومدى ملاءمة الانفتاح على أنظمة لا تزال موضع خلاف. رأى بعض النوّاب في الخطوة تراجعاً عن القيم الأميركيّة التقليديّة، فيما اعتبرها آخرون خطوة شجاعة نحو “الواقعيّة السياسيّة الجديدة” التي تقودها واشنطن في مرحلة ما بعد الفوضى الإقليميّة.
يمكن القول إنّ استقبال الشرع لم يكن مبادرة بروتوكوليّة وحسب، بل خطوة لتجريب أدوات جديدة في إعادة تعريف العلاقات الدوليّة
لكن بعيداً عن الجدل الأخلاقيّ والسياسيّ، ثمّة حقيقة لا يمكن إنكارها: حمل اللقاء قيمة رمزيّة عالية. تُدار السياسة اليوم بالصورة بقدر ما تُدار بالقرار، ومن يظهر في البيت الأبيض يكتسب تلقائيّاً مساحةً في النظام الدوليّ. تجعل هذه القاعدة الجديدة في العلاقات الدوليّة من الرمزيّة أداةً فاعلةً في بناء النفوذ وإعادة التموضع، خصوصاً في عالمٍ تتشكّل مواقفه من سرعة التداول الإعلاميّ.
مكسب استراتيجي للشرّع..
بكلمات أخرى، منحت واشنطن دمشقَ اعترافاً مباشر بوجودها في معادلة الإقليم، بعد التعليق المؤقت للعقوبات. إنّها شرعيّة “الظهور”، التي تسبق أيّ شرعيّة قانونيّة. مع كلّ نقاش وجدل في الإعلام الغربيّ، تتعمّق هذه الشرعيّة أكثر في الوعي العامّ الدوليّ، وهو ما يشكّل مكسباً استراتيجيّاً للنظام السوريّ، وخطوة محسوبة للإدارة الأميركيّة التي تريد أن تبقي لنفسها خيوط التأثير في كلّ الاتّجاهات.
قد يكون اللقاء أيضاً بداية لمرحلة جديدة في فهم العلاقة بين الرمزيّة والسياسة. الغرب الذي عاش سنواتٍ على خطاب العزل والمقاطعة، بدأ يدرك أنّ المشهد لا يُدار فقط بالقوّة، بل أيضاً بالتصوّر الذهنيّ الذي تخلقه الصور. من هنا، يمكن القول إنّ استقبال الشرع لم يكن مبادرة بروتوكوليّة وحسب، بل خطوة لتجريب أدوات جديدة في إعادة تعريف العلاقات الدوليّة.
أمّا على المستوى الإقليميّ فبعثت واشنطن برسالة مزدوجة:
– الأولى لحلفائها العرب بأنّها منفتحة على إعادة التفكير في الملفّات المعقّدة من دون التزامات مسبقة.
– الثانية لخصومها بأنّها لا تزال تمسك بمفاتيح التواصل حتّى مع من تعتبرهم خصوماً.
إنّها سياسة “إدارة المسافات”، حيث لا قطعيّة في التحالف ولا قطيعة في الحوار.
إنّها بداية فصل جديد في لغة واشنطن تجاه دمشق، فصل لا يقوم على الودّ ولا على العداء المطلق
ختاماً، يمكن القول إنّ لقاء ترامب والشرع أعاد إلى الواجهة النقاش في معنى “الاعتراف” و”الشرعية” في عالم متغيّر. المصافحة التي نقلتها الشاشات لم تكن لقطة عابرة فقط، بل لحظة سياسيّة والانتقال من منطق القطيعة إلى منطق الرمزيّة المحسوبة.
إنّها بداية فصل جديد في لغة واشنطن تجاه دمشق، فصل لا يقوم على الودّ ولا على العداء المطلق، بل على براغماتيّة “حارة” تزن المصلحة قبل الموقف.
في السياسة، كما في الإعلام، من يملك القدرة على إنتاج الصورة، يملك القدرة على إعادة كتابة القصّة.
*كاتب وصحافي أردني
- أساس ميديا






















