ملخص
تعلم السلطة السورية، وأي سلطة أخرى في العالم، أن الجيوش تزحف على بطونها، وهي جملة نابليون الشهيرة، لكن يمكن إضافة والجماهير تزحف على بطونها أيضاً، لذلك، يمكن غالباً إخماد أي تذمر بتوفير الدواء والمستشفيات والمال المعقول والغذاء، فكيف لو أضيف إليهم ما كان من المنسيات لعقد من الزمن على الأقل، إما لصعوبة تأمينه الفائقة، أو عدم وجوده أساساً، والحديث هنا عن الوقود والكهرباء.
“مرّ يومان بكهرباء متواصلة، كنتُ مستغرباً جداً، شعرت أن القصة مجرد عطل ولكن لمصلحة الناس هذه المرة”، يقول ممدوح شاكر صاحب أحد معارض السيارات في مدينة طرطوس لـ “اندبندنت عربية” بعد سؤاله عن التحسن الكبير والمفاجئ الذي طرأ على واقع الشبكة الكهربائية في كثير من المحافظات السورية. وأضاف “الأمر يشبه الصدمة من توافر شيء نسيت الناس ما هو فعلاً، كهرباء مستمرة، الأمر غريب تماماً وغير منطقي بصراحة، البلد غارقة في العتمة منذ أكثر من عقد، أعتقد أن كل السوريين لديهم اليوم مشكلة في أعينهم بسبب بدائل الضوء التي كنا نلجأ إليها”. وتابع “فعلياً قبل انقضاء اليوم الأول من الكهرباء المتواصلة، حاولت تفقد قواطع المنزل وسألت الجوار، الجميع كان لديهم كهرباء، فعدت إلى منزلي وأطفأت الأنوار، السعادة الصادمة غير ملائمة لنا”، يقول ضاحكاً.
يتشارك مع ممدوح في استغرابه شريحة سورية كبيرة، وصل إليها موقع “اندبندنت عربية” بالسؤال المباشر، أو تمكن من رصد تفاعلاتها عبر صفحات التواصل الاجتماعي التي غصّت بأخبار الكهرباء خلال الأيام الماضية، وهو فعلياً حدث غير معهود في يوميات الناس الذين كادوا أن ينسوا وجودها على مدى سنين طويلة كانت تصل فيها ساعات التقنين اليومي إلى أكثر من 20 ساعة.
الصدمة المقبلة
يرى المقاول عزّام إسماعيل أن المواطن سيأخذ الكهرباء من هنا ويدفع ضريبة تعجزه من هناك، ويعيد ذلك لأسباب موضوعية يشرحها معتبراً أن الفرحة الحالية بالكهرباء، ووصولها إلى بعض المدن كحلب ودمشق وحمص وطرطوس وغيرها، بمعدل 20 ساعة تغذية يومياً، سيكون وبالاً جماعياً خلال شهرين على أبعد تقدير، أي مع أول دورة فوترة مقبلة. وأضاف، “سابقاً بغض النظر عن عدد ساعات الكهرباء، ولكن كانت أسعارها مدعومة من الدولة بنسبة عظمى، الشهر الماضي رفعت الحكومة سعر استهلاك الكهرباء 6 آلاف في المئة، أي بفرض ما كان سيُدفع وهي في حالة حضور دائم، وكان سيكلف بضعة دولارات في الشهر، أما الآن على الأسعار الجديدة فستكلف مئات الدولارات في الشهر، أي ما يفوق دخل أي سوري، بل بما سيزعج الأغنياء حتى، وما سيدفع مصالح ومنشآت ومصانع ومطاعم وغيرهم إلى الإغلاق. سنوات طويلة مرت وليس هناك فولت واحد في شبكة الكهرباء، وفجأة ترتفع الأسعار للسماء وتصبح الكهرباء بمتناول الجميع، هذه صارت جباية، وإعادة إنتاج نظام اقتصادي قديم في حقب سوداء على السوريين، الارتفاع مقابل التوفير، هذه هي القاعدة”.
المعادلة الكهربائية الأسرية
بدوره يرى طبيب الأسنان بشار خضر أنه وزوجته الآن أمام مهمة جديدة وشاقة، وهي إيجاد آلية لاستخدام الأدوات الكهربائية، مبيناً أن السوريين سريعاً أجروا حسابات تكلفة ساعية لكل قطعة كهربائية مستخدمة، “الآن وكوننا في الشتاء، وفجأة كهرباء كثيرة جداً، بتنا نوصل البراد بالكهرباء لساعة ونفصله ثلاثاً، الغسالة قلصنا أيام تشغيلها، السخّان المائي، الفرن الكهربائي، إلخ… الأزمة بروح الكوميديا السوداء السورية الخالصة، صارت اليوم أن الحكومة ستأخذ مالاً كثيراً، ولن تكتفي بذلك، بل ستغرق السوريين بعمليات رياضية وحسابية لمعرفة متى وأين وكيف يجب استخدام الكهرباء، فمثلاً الآن سيتم تسخين مياه الاستحمام ليستحم الجميع تباعاً، لئلا يظل هناك مياه ساخنة مهدورة، لم يعد مسموحاً أن يستحم كل واحد في يوم مختلف وساعة مختلفة”.
بين التقديرات المحلية والدولية
منذ تولي السلطات الجديدة الحكم في سوريا أواخر العام الفائت عقب الإطاحة بنظام الأسد، قدمت خطة اقتصادية وإصلاحية واسعة شملت جوانب عدة من معيشة المواطن، اقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً وثقافياً، فشلت في أحيان كثيرة، وتراوحت أسباب ذلك الفشل بين العقوبات الغربية المشددة والتي أزيل بعضها تباعاً، وجُمِّد بعضها الآخر، مع وعود بإيقاف فاعلية ما تبقى، إضافة إلى وقوع السلطة في فخ فضيحة الاستثمارات المليارية الوهمية، والتي كان يعوَّل عليها لرفد حركة عجلة إعادة الإعمار، رفقة حملات تبرعات المدن خلال الأشهر الماضية، والتي حملت أيضاً جانباً وهمياً كبيراً، علماً أن الرئيس السوري أحمد الشرع أكد في لقاء صحافي أخيراً أن سوريا ستركز لإعادة الإعمار على الاستثمار والتبرعات، فيما رأى مراقبون حينها أن هذين الجانبين لا يكفيان، بخاصة أن الشرع تحدث عن حاجة سوريا لمبلغ يتراوح ما بين 600 و900 مليار دولار، ليؤكد صندوق النقد الدولي لاحقاً أن تكلفة إعادة إعمار سوريا هو 200 مليار دولار.
فخ الأيديولوجية
إلى جانب ذلك، وقعت السلطة في فخ الأيديولوجية القاتلة التي جاءت محملةً معها من إدلب لتظهر من خلال تعديل المناهج بشكل لا يواكب الثقافة السورية العامة وصولاً إلى التدليس وزج معلومات غير صحيحة، وذلك بدواعٍ غير معلنة تندرج تحت إطار الشرعية الثورية أولاً، والشعار الذي حملته السلطات مع بدايتها بالقول “مَن يحرر يقرر”. وقد يكون الحديث عن هفواتها كثيراً، وضمناً استعداء مكونات سورية عسكرياً واجتماعياً، بشكل صريح، أو أكثر تنميقاً على لسان وزراء في حكومتها، وتلك الهفوات طاولت وزارتي الخارجية والثقافة على وجه التحديد، فضلاً عن ملفات الاعتقال والسجون والتعذيب والتغييب القسري والإخفاء المتعمد للحقائق، حتى راح سوريون يرون أن كثيراً من اليوم هو إعادة تدوير للأمس، وفي حالات أخرى رأى بعضهم أن الشرع وفريقه في وادٍ إصلاحي، وما دونه من مستويات، من دون تعميم، في وادٍ متيبس. فالرئيس الذي قال: “نصرٌ بلا ثأر” و”انتهت الثورة وبدأ بناء الدولة”، كان يعني ما يقول، لكن آخرين لم يفهموا المراد من قوله، وهذا حقٌ في شارع مكلوم ومضطهد سنوات طويلة، لكنه ليس حقاً في مؤسسات دولة، ظلت تصطبغ حتى صار الداخل والخارج يصف بفعلها سوريا بـ “دولة الشيوخ”.
بين الداخل والخارج
على رغم ذلك نجحت السلطات في إدارة ملفات كثيرة ومركبة، وبمعزل عن هفوات وزارية لكنها لم تكن إلا كلامية ذات ارتداد داخلي، لا سيما مؤتمر وزارة الداخلية الأخير والشهير الذي نفى وقوع إلا حالة خطف واحدة في سوريا.
ولكن حين ننظر إلى البلاد كاملةً كمشروع يتخطى المحلية الفردية نحو أبعاد أعمق، يتضح أن هذه السلطة نجحت في زيادة مرتبات الموظفين لأضعاف، ونجحت دبلوماسياً وخارجياً بشكل منقطع النظير، وانضمت إلى تحالفات دولية، وحضرت قروض مانحين ومنتديات عالمية، تلقت وعوداً وقدمت أخرى، وحملت على ظهرها شأن إصلاح الداخل من الخارج والخارج من الداخل. وإن كان هناك تفاوت كبير بين المعنيين، ففي هذه المعادلة ما زالت مشكلات الداخل تصدر نفسها للخارج كمؤثر، فيما تنعكس نجاحات الخارج ارتياحاً مقابلاً في الداخل.
الجماهير تزحف على بطونها
تعلم السلطة السورية، وأي سلطة عالمية أخرى، أن الجيوش تزحف على بطونها، وهي جملة نابليون الشهيرة، لكن يمكن إضافة والجماهير تزحف على بطونها أيضاً، لذلك، يمكن غالباً إخماد أي تذمر بتوفير الدواء والمستشفيات والمال المعقول والغذاء، فكيف لو أضيف إليهم ما كان من المنسيات لعقد من الزمن على الأقل، إما لصعوبة تأمينه الفائقة، أو عدم وجوده أساساً، والحديث هنا عن الوقود والكهرباء، الوقود حالياً ليس منخفض السعر على مستوى الإقليم، لكنه متوافر، وهنا يتذكر السوريون أياماً كانوا يقضونها في طوابير الانتظار. أما التحدي الأعقد فكان عودة الكهرباء دفعة واحدة، وأهل سوريا منذ عام 2012، مع اشتداد المعارك وخروج محطات التوليد عن الخدمة وشبه انعدام الإنتاج والتوريدات، كانوا استبدلوها بالشموع، ثم ببطاريات الإنارة المنزلية الصغيرة مع ما يُعرف بأشرطة ضوء “الليد” (LED)، وذلك قبل التوجه شبه الجماعي نحو الطاقة البديلة، عبر تركيب منظومات طاقات شمسية على أسطح المباني، ضمن سلسلة قروض كانت ميسرة جداً حينها من البنوك.
السوريون الذين ذاقوا مرارة المجاعة الفعلية مع عام 2020 وجائحة كورونا وإقرار “قانون قيصر” واختفاء كل شيء كان شبه موجود سابقاً رويداً رويداً، باتوا اليوم يتنفسون كهرباءً وسياراتٍ رخيصة بالجملة، ودخاناً وأجهزة خلوية وغذائية من دون جمارك الفرقة الرابعة.
على الأرض
خلال الأيام الماضية بحث موقع “اندبندنت عربية” في الواقع الدقيق والنسبي لتوزيع الكهرباء، بعض الأهالي في أحياء متعددة بين حلب وحماة ومصياف وطرطوس ودمشق وحمص أجمعوا أنها وصلت إليهم في المتوسط بحدود 20 ساعة تغذية يومية، فيما قال سكان أحياء أخرى في تلك المدن إنها استمرت أكثر من ذلك، البعض تحدث عن يومين متواصلين، وهي رواية تمّ التأكد منها، ولكن على الأقل في اليومين الماضيين عادت الشبكة نسبياً لتقلل الحمولات عبر خفض ساعات التغذية. لا يمكن القول إنه يوجد برنامج موحد للتقنين أو التغذية، فثمة مناطق عادت لتنقطع فيها ما بين 6 إلى 8 ساعات متواصلة ثم تأتي بذات المقدار أو أكثر، وهو ما يكشف عن محاولات جدية لضمان إدارة ديمومة التيار المنزلي والصناعي.
أحد سكان ضاحية قدسيا في ريف دمشق قال، “منذ الأمس لم تنقطع، أعتقد حتى الآن أكثر من 22 ساعة”، فيما أفادت فتاة تسكن في منطقة برزة – حاميش بالعاصمة دمشق بأنهم يعيشون حتى الآن على وقع تقنين، 4 ساعات قطع مقابل ساعة ونصف وصل، آخر يقطن في حمص قال: “منذ أيام قليلة كان التقنين في ذروته، لكن ساعات وصل الكهرباء فجأة تغيّرت للأفضل بكثير، ثم عادت تقطع وتجيء”. ومن استبيان آراء أناس وأهال داخل أحياء في مدن واحدة يتبين أن التغذية الكهربائية حتى الآن غير مستقرة وغير متساوية تماماً.
المهندس الكهربائي جاد الله مسعف قال، “بغض النظر عن طريقة استجرار الكهرباء، لكن توافرها لا يعني إمكانية إيصالها لكل حي، حتى ضمن الحي الواحد قد نرى خطين متقابلين أحدهما مضاء والآخر مظلم، الأمر يعود لسلسلة الشبكات نفسها والتمديدات والمحولات ومدى تضررها وما وقع عليها خلال الحرب. إذاً، عملية توفير الكهرباء أمر مذهل وعظيم في هذه الظروف، لكن التحدي يكمن في إتمام الصيانة، وهذا يجب أن يرتبط بما نسميه مشاريع التعافي المبكر، ومن الخطأ ربطه بكامل عملية إعادة الإعمار، والآن أكثر ما يُخشى منه هو كيفية الحفاظ على توازن الشبكة مع الارتفاع المهول الذي سيقع عليها بسبب الحمولات الشتوية”.
أما بالنسبة للمنطقة الشرقية فقد تواصل موقع “اندبندنت عربية” مع عدد من الأهالي هناك لسؤالهم إذا كان واقع التحسن قد شمل مناطقهم، تحديداً دير الزور وجوارها، فكان الجواب بأن التقنين الذي ما زال معتمداً حتى الآن هو 5 ساعات قطع مقابل أقل من ساعة وصل، وهو ما برره الأهالي بأنه وبحسب ما قيل لهم من قبل مسؤولين حكوميين محليين في المنطقة إنه ناجم عن مشكلات تقنية يجري العمل على إصلاحها ضمن الشبكة.
الفضيحة المشتركة
على رغم أن السوريين تجاوزوا على مضض فضيحة الخط الغازي من أذربيجان إلى سوريا عبر تركيا بتمويل قطري قبل أشهر، وهو كان أحد أوائل مشاريع السلطة، وانتظر الناس كثيراً قبل أشهر الكهرباء التي سيتم توليدها مع انتظام وصول الغاز، لكن شيئاً لم يتغير، إذ سرعان ما اتضح أن الغاز الأذري غير مطابق لمواصفات محطات التوليد السورية، في فضيحة يمكن إلى حدٍّ ما اعتبارها دولية، لأنها لم تكن مجرد اتفاقيةً مبرمة وفقط، بل اشتملت على أنابيب عابرة للحدود، وبنية تحتية، ومدفوعات مليارية، وصفقة كبرى.
تلك القضية تحدث عنها باقتضاب الأستاذ الجامعي في الاقتصاد معن يوسف قائلاً، “لو أردنا الحديث بلغة الاقتصاد ورموزها سيكون الأمر معقداً جداً، بل إنه يستحق دراسة مطولة، ولكن سأطرح مثلاً بسيطاً جداً لأوضح: نحن حصل معنا كمن يمتلك سيارة كورية قديمة واشترى لها محرك سيارة ألمانية حديثة ثم تفاجأ لماذا لم تعمل! هذا بالضبط ما حصل، أربع دول تشاركت بمشروع ملياري ولم تعرف مسبقاً أن الغاز الأذري لا يلائم طبيعة محطاتنا؟ في الاقتصاد البسيط نصف هذا الأمر ضمن مصطلحي ‘استهلاك غير فعّال وتصرفات غير رشيدة'”.
المهم أن تصل… ولكن!
مصادر رسمية سورية تحدثت لـ “اندبندنت عربية” عن قرب توقيع اتفاق مع شركات ألمانية وأميركية لمصلحة توريد توربينات ومعدات وبنى ولوازم كهربائية إلى سوريا ضمن عقود قد تصل قيمتها إلى مليارات الدولارات، وحالياً يجري التفاوض على الآلية والتفاصيل وخلافه، خصوصاً مع وجود دعم سعودي لافت في مجالات متنوعة من بينها الطاقة.
أخيراً، لا يهم السوريين كثيراً كيف تصل الكهرباء، المهم أن تصل، لكن في الوقت ذاته يتحاملون على أنفسهم بين فرحةٍ وحزنٍ بحاجة أساسية عادت وهي ليست رفاهية أو كمالية، لكن ذهاب نشوة عودتها سيكون سريعاً ومقترناً بأول فاتورة كهربائية مقبلة، تلك الفاتورة التي أياً تكن فهي ستتجاوز دخلهم المحدود، في بلد ما زالت الأمم المتحدة تقول إن أكثر من 90 في المئة من أهله تحت خط الفقر، وهؤلاء الفقراء مرّوا على خبر الارتفاع التاريخي في سعر الكهرباء من دون وجود أحد ليسمع صوتهم، فلم يجدوا إلا أن يناشدوا الرئيس ليتدخل. وخلال منتصف نوفمبر الجاري وجهت لهم شركتا الاتصالات الوحيدتان في سوريا ضربة بذات القسوة، عبر رفع أسعارهما إلى حدود غير منطقية أمام الدخل المتهاوي.
- إندبندنت


























