بدء التغير في التصور وفي السردية عن أهمية المسيحيين العرب
لقد قيل وكتب الكثير في الآونة الأخيرة عن النزاع الشديد حول إسرائيل، في الدائرة المقربة من الرئيس الأميركي دونالد ترمب وحركة “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” (ماغا). فأميركا تشهد الآن، في الواقع، ردَّ فعلٍ عنيفا غير مسبوق ضد دعم إدارة ترمب الأعمى لإسرائيل.
ولا يقود هذا النزاع أنصار بيرني ساندرز أو اليسار المتطرف كما يحدث عادة، بل هو قادم من قلب الأوساط المسيحية المحافظة في جنوب الولايات المتحدة. ومعظم هذا التحرك الذي يتبنى هذه الآراء يقوده تاكر كارلسون، الذي يمكن القول إنه أشهر وأكثر الشخصيات نفوذا داخل دائرة ترمب المقربة.
وليس من المبالغة القول إن الحرب في سوريا، وخاصة محنة المسيحيين السوريين، هي التي دفعت تاكر إلى تغيير رأيه على قناة “فوكس نيوز”. كما بدأت رحلة طويلة لإعادة وضع المسيحيين العرب على الخريطة وإسماع صوتهم في وسائل الإعلام الأميركية. وبدأت الجماعات المسيحية الأميركية تدريجيا تنظر إلى سوريا على أنها قلب المسيحية الرئيس.
سوريا قلب المسيحية الشرقية
حظيت سوريا على الدوام بمكانة خاصة لدى المسيحيين الأميركيين، منذ القرن التاسع عشر أيام العهد العثماني. ففي زيارات الحجاج الأميركيين سابقا إلى ما كان يعرف آنذاك بأنطاكية السورية، التي أصبحت تحت السيطرة التركية حاليا، اتبعوا المسار من أنطاكية وطرسوس إلى دمشق ثم جنوبا ليختموا حجّهم في القدس.
وقد تولى تدريس اللغتين الآرامية والسريانية رهبان سوريون وأنشئت كليات مختلفة، حتى إن الجامعة الأميركية الشهيرة في بيروت سميت أولا عام 1863 بالكلية السورية البروتستانتية. وارتبطت كلمة سوريا ارتباطا وثيقا بالمسيحيين الأوائل، بل كانت القدس أيضا جزءا من جنوب سوريا في الكتب المدرسية. وهذا بالطبع يتماشى أيضا مع التسمية العربية الكلاسيكية لـ”بلاد الشام”، حيث تعد فلسطين، والقدس على الأخص، جزءا من سوريا الكبرى، وبالتالي فإن موطن المسيحية يمتد من أنطاكية عبر دمشق وصولا إلى القدس.
تحدى تاكر أحد قادة الدعم المسيحي لإسرائيل، تيد كروز، وأهانه في مقطع فيديو شاهده الملايين، وسأله عما تفعله أميركا الآن في إسرائيل وتجاهلها للمسيحيين العرب
يمكن القول إن الحرب في سوريا أبرزت إلى الواجهة اضطهاد المسيحية المشرقية ككل، من العراق إلى فلسطين. ومرة أخرى، كما في القرن التاسع عشر تماما، بدأ الأميركيون في النظر إلى سوريا بوصفها قلب المسيحية المشرقية، وأدى هذا أيضا إلى بدء التغير في التصور وفي السردية عن أهمية المسيحيين العرب.
أثرت الحرب في سوريا تأثيرا عميقا على حياة جميع السوريين. ولكن كما هو الحال في العراق ولبنان المجاورين، تحمل المسيحيون في سوريا عبئا ثقيلا بعد أن استهدفتهم الجماعات المتطرفة لمجرد إيمانهم فقط. وفي عام 2016، حرض مقتل المسيحيين في الحرب في سوريا والشرق الأوسط، على عقد أول اجتماع منذ 1000 عام، بين بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والبابا فرانسيس.
أ ف بالرئيس الأميركي دونالد ترمب (يسار) يصل لإجراء مقابلة مباشرة مع المعلق الأميركي تاكر كارلسون خلال ختام جولة الأخير الحية في أريزونا، في 31 أكتوبر 2024
كارلسون والأميركيون ينتبهون لسوريا
في وقت سابق من هذا العام، أثار المذيع التلفزيوني الأميركي المحافظ تاكر كارلسون، غضب اللوبي الإسرائيلي وأنصار أيديولوجيا الصهاينة المسيحيين بتشكيكه في دعم واشنطن لإسرائيل التي تعتزم قتل واضطهاد المسيحيين الفلسطينيين. وقد أجرى كارلسون مقابلة مع القس منذر إسحق من الكنيسة الإنجيلية اللوثرية المسيحية، وهو قس من بيت لحم، قدم سجلا يظهر النقص المتواصل في الوعي داخل الولايات المتحدة بشأن معاملة المسيحيين في الأرض المقدسة. كما أن كارلسون هو من أطلق في عام 2018، بصفته مقدما في قناة “فوكس نيوز” في ذلك الحين، نقاشا في وسائل الإعلام الأميركية الرئيسة حول القتل الواسع النطاق للمسيحيين السوريين، وشكك دوما في دعم الولايات المتحدة للجماعات التي كانت تستهدف المسيحيين في الشرق الأوسط. ثم تحدى تاكر أحد قادة الدعم المسيحي لإسرائيل، تيد كروز، وأهانه في مقطع فيديو شاهده الملايين، وسأله عن أساسيات الكتاب المقدس وأين قال هذا الكتاب إن ما تفعله أميركا الآن في إسرائيل وتجاهلها للمسيحيين العرب هو الطريق الصحيح.
لم تضع سوريا المسيحيين العرب على الخريطة العالمية فحسب، بل غيرت أيضا نظرة المسيحيين الأميركيين إلى الشرق الأوسط
قاد كارلسون حملة حشد فيها المحافظين في الولايات المتحدة، بتسليطه الضوء على أهمية المسيحيين السوريين. كما شارك براد هوف وزاكاري وينغرد في تأليف كتاب “سوريا المصلوبة”، الذي وثق معاناة المسيحيين السوريين وتأثيرها على المسيحية المشرقية، مع ذكر تفاصيل كيف بدأ المسيحيون الأميركيون ينتبهون إلى هذه المسألة. وبراد هوف، وهو جندي مخضرم في مشاة البحرية الأميركية عاش في سوريا، بدأ بجولة في أميركا وتحدث في المدارس والكنائس عن المسيحيين العرب وأهمية أن تنقذ المسيحية الأميركية نفسها من النظرة الأحادية الجانب القائمة على منظور الإنجيليين فقط من أمثال هاكابي وكروز.
ونرى الآن أمثال النائبة الأميركية مارجوري تايلور غرين، التي لقبت سابقا بـ”سيدة ماغا”، وهي تنشق عن التيار المسيحي السائد الداعم لإسرائيل. وتتساءل ميغن كيلي، وهي مذيعة برامج حوارية محافظة شهيرة، كيف يمكن للمسيحيين أن يتجاهلوا ما يحدث للمسيحيين العرب.
أ ف بيحمل أرماش نالبانديان، الأسقف الرسولي الأرمني في دمشق، تمثالاً على شكل حمامة أثناء طقوس مباركة الماء في قداس عيد الميلاد في كنيسة القديس سركيس في باب شرقي في مدينة دمشق القديمة في 6 يناير 2025
المسيحيون العرب إلى الصدارة
مع قيادة تاكر كارلسون للحركة الرامية إلى إتاحة منبر لرجال دين مسيحيين من سوريا وغزة والضفة الغربية، برز مسيحيون عرب آخرون إلى الواجهة. فقد حدث تحول تدريجي وبطيء، ولكنه مهم في تولي المسيحيين العرب البارزين زمام المبادرة في السياسة، سواء في إدارة ترمب أو في الدوائر السياسية في واشنطن العاصمة. فمحامية ترمب وصديقته المقربة، ألينا حبا، من أصل كلداني عراقي. وجوليا نشيوات، زوجة مستشار الأمن القومي الأميركي السابق والسفير الحالي للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، مايكل والتز، تنحدر من عائلة مسيحية أردنية بارزة. كما أن نشيوات ليست مجرد زوجة والتز، بل خدمت في الجيش والبيت الأبيض وشغلت مناصب رسمية أخرى. كما أن ابنة ترمب متزوجة من رجل من عائلة مسيحية لبنانية بارزة نشطت في حشد الأصوات العربية لترمب، كما ساهمت في جلب قاعدة مسيحية عربية أكبر إلى السياسة الأميركية. وأيمن عبد النور هو أحد الأصوات المسيحية البارزة في واشنطن العاصمة، التي تقود السياسة السورية المؤثرة في الكابيتول هيل. والدكتور مارتي مكاري، من أصل مسيحي مصري، هو الآن مفوض الغذاء والدواء ومستشار طبي رئيس لترمب.
ولتتويج كل ذلك، يمكن القول إنه بينما كانت هوليوود تصور يسوع دائما بشعر أشقر وعينين زرقاوين، فإن المسلسل التلفزيوني الأكثر شعبية حاليا، المعروف باسم “المصطفى”، يضم ممثلا أميركياً عربيا من أصل مصري-سوري، هو جوناثان رومي، وهو من يؤدي دور يسوع.
لم تضع سوريا المسيحيين العرب على الخريطة العالمية فحسب، بل غيرت أيضا نظرة المسيحيين الأميركيين إلى الشرق الأوسط.
- المجلة
























