
هذا سؤالٌ تسمعه في المقاهي وعبر الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي. ولكل شخص يطرحه أهدافه الخاصة: العَشَم والتشكيك والتردد والخوف! وتعدّد تلك الأهداف والهواجس حالة طبيعية ضمن خلطة التنوع والمواقف في المشهد السوري المعقد والمتنوع.
دون أن تشغل بالك، ستجد أن كثيرين اختصروا دلالات الديمقراطية؛ بالديمقراطية السياسية، بل اختصروا السياسية بالانتخابات، خاصة انتخابات الرئاسة أو البرلمان.
لو ركزوا قليلاً لوجدوا أن ما تحتاجه البلد اليوم ليس ديمقراطية الصندوق، بل ديمقراطية التشارك لأن ديمقراطية الصندوق ستذهب في هذه المرحلة إلى مؤيدي السلطة حتماً، وهم أغلبية، ذلك أن النصر الذي حققته تلك السلطة للسوريين وتخليصهم من أحد أبرز الأنظمة المستبدة عبر التاريخ جعلهم ممتنين لها سنوات وسنوات.
وما يؤكد هذه النتيجة المتوقعة أنهم باتوا يلمسون جوانب تحسن ملفتة: اقتصادية وخدماتية يومية ومواطناتية، مما يعمق ثقتهم بهذه السلطة وتفهم خياراتها.
الانتصار على النظام البائد خلال أحد عشر يوماً جعل سوريين كثيرين يعتقدون أنه لدى السلطة في سوريا عصا سحرية يمكنها أن تحقق كل شيء بسرعة، بيْد أن منطق المعارك يختلف اختلافاً كلياً عن منطق العملية السياسية. ومنطق الثورة يختلف عن منطق بناء الدولة.
ومع ذلك، لا يمكننا أن ننسى أن ما يتحقق من انتصارات في ساحات القتال هو ثمرة تحضير سنوات، غالباً ما يتسم بالسرية، عكس الاشتغال على الديمقراطية!
تقوم ابنتي في هولندا بتقديم بحث عنوانه: هل هناك إمكانية لقيام ديمقراطية في سورية مقارنة مع التجربة الهولندية؟ لذلك، أتحاور معها مرات عدة مثلما يتحاور معها مشرفها؛ المشرف وأنا وهي متفقون على فكرة التدرج والخطوات، وأن الأمر يحتاج إلى جهود سنوات متراكمة.
كان أحد أبرز الأسئلة التي نريد الوصول إلى نتيجة فيها هو: أن أي عملية ديمقراطية سياسية أو اجتماعية أو فكرية تحتاج إلى إرادة سياسية، أو بكلمة أدق إلى إرادة قائد، هنا مربط الكلمة، إرادة قائد يقود بلاده إلى الديمقراطية!
يشتكي سوريون من غياب مفردة الديمقراطية عن المعجم السياسي السوري هذه الأيام، لأن الثقافة السياسية السورية اعتادت على “الجعجعة أكثر من الطحن” وكذلك على التصريحات الكثيرة والأفعال القليلة.
لو نظرنا إلى المشهد السوري اليوم لوجدنا إشارات ديمقراطية مهمة: بدء مسار العدالة الانتقالية، البدء ببناء جيش وطني، العودة إلى المأْسَسة، حرية غير مشروطة في التعبير، عمل مفتوح لمنظمات المجتمع المدني والنقابات والعودة إلى الانتخابات (تجربة الاتحاد العام لنقابات العمال في سورية التي جرت مؤخراً) والمكاشفة بين السلطة والمواطن، والبدء ببناء إجراءات الثقة بينهما.
تلك الإشارات تدلّ أول ما تدل على أن الديمقراطية مشروع طويل الأمد، يحتاج جهوداً متراكمة وتدرجاً في التطبيق وتخلصاً من إرث طويل من الاستبداد.
في الثقافة السورية، يمشي الحديث عن الديمقراطية غالباً في طريق واحد هو: مشاركة المواطنين في اتخاذ القرار السياسي، حيث يحدث ذلك عبر: وجود الأحزاب، والانتخابات، والبرلمان، والفصل بين السلطات واحترام حقوق الإنسان.
المهم أن تكون النية موجودة لدى السلطات السورية. حتى اللحظة، كل المؤشرات تقول: إن الأمر أبعد من النية بل هناك خطوات واقعية، منها انتخابات مجلس الشعب، وخطوات كثيرة نحو المأسسة والفصل بين السلطات.
مهلاً! لا تنس أخي مختزل الديمقراطية بالديمقراطية السياسية؛ الديمقراطية الاجتماعية والعدالة في توزيع الفرص والمشاركة ببناء الدولة، واختيار الكفاءات، وتأمين الخدمات لأبناء المجتمع جميعاً، وحق التعليم وصولاً إلى المساواة ومبدأ كرامة الإنسان الذي بتنا نرى عدداً من مظاهره، منها حقه في أمكنة منظمة أثناء مراجعته الدوائر الحكومية لإنجاز معاملاته (الجوازات ووثائق النفوس والمعابر الحدودية مثلاً).
مهلاً! لا تنس أخي مختزل الديمقراطية بالديمقراطية السياسية؛ الديمقراطية الفكرية، وتعدد الأصوات والآراء وحرية البحث والتعبير والإعلام، أظن أن سوريا حالياً بين أبرز الدول في ذلك النوع من الديمقراطية.
من السهل أن نطلب من السلطة في سوريا تحقيق الديمقراطية، لكن من المهم الانتباه إلى إرادة المجتمع والظروف الخارجية وأحوال البلدان في مراحل ما بعد النزاع، وأننا نعيش في بلد بنيت مؤسساته فترة طويلة على التعمية وتكريس السلطة بيد الأشخاص ليكون في كل دائرة مدير، مستبد صغير تتركز بيده معظم السلطات.
المجتمع السوري منهك ومتعب ومنقسم، والانتقالات السريعة قد تقود إلى الفوضى، والتدرج والانطلاق من المدارس والإعلام والحراك الاجتماعي قد يكون أفضل المداخل نحو الديمقراطية التي لا يمكن فرضها مثلما يفرض القانون، بل يمكن البدء بها لأنها مسار معقد ومتداخل.
المؤكد أن الرئيس أو السلطة في سوريا أو أي بلد آخر لا يمكنها بمفردها تحقيق الديمقراطية لأنها عمل جماعي طويل الأمد، ينطلق كذلك من الشعب والنخب والمجتمع المدني والأحزاب، وكذلك المجتمع الدولي الذي يمكنه المساعدة في تهيئة الظروف لقيامها.
أخيراً؛ على سبيل المناكفة نسأل: يا صديقي المطالب بتحقيق الديمقراطية بأقصى سرعة ممكنة، وتلجُّ علينا ليل نهار نحو تحقيقها:
هل أنت ديمقراطي في بيتك؟ مع أطفالك وعائلتك؟ في مكان عملك؟ مع رفاقك في المقهى؟ سماع الرأي الآخر؟
ساعدْ السياسي، أرجوك، بتحقيق الديمقراطية من خلال البدء بنفسك في فضاء بيتك!
ستقول لي: تلك مطالب صعبة يحتاج تحققها إلى وقت طويل!
نعم! أتفق معك؛ ما أصعب تحقيق الديمقراطية في المنزل لأنها متعبة ومربكة وتقض مضجع سلطاتك المطلقة وتحتاج إلى ترتيبات طويلة!
تعالَ معي لنريح أنفسنا، ونذهب إلى مطالبة السلطات السورية بتحقيق الديمقراطية السياسية والتشاركية قبل الانتهاء من توحيد البلاد، دعنا نتغن بالمطالب يا صديقي!
لقد تأخرتْ السلطات علينا طويلاً، مرت سنة ولما تتحقق الديمقراطية التي نحلم بها في سوريا، تلك الديمقراطية التي يرى كثيرون أنها شرط تحقق الدولة، ولا دولة دونها وقد يكونون محقين!
- الثورة السورية


























