الملخص التنفيذي
تقدّم هذه الدراسة قراءة تحليلية للسنة الأولى من مسار العدالة الانتقالية في سورية، عقب سقوط النظام السابق في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، في سياقٍ تتقاطع فيه تحديات إعادة بناء الدولة مع إرث طويل من الانتهاكات الواسعة والعنف السياسي الممنهج. وتستند الدراسة إلى المعايير الدولية وإلى تجارب الدول الخارجة من الصّراعات، وذلك بغية تقييم ما تحقّق وما تعثّر، في المرحلة التأسيسية للعملية الانتقالية في سورية.
وفي هذا المسار، صدر الإعلان الدستوري لعام 2025، الذي رسّخ بعض المرتكزات الأساسية، من خلال إلغاء القوانين والمحاكم الاستثنائية، وتثبيت مبدأ عدم تقادم جرائم التعذيب، وإنشاء هيئات وطنية معنيّة بالحقيقة والمساءلة والمفقودين. وشهدت السنة الأولى إجراءات عملية شملت رفع القيود الأمنية، وإعادة المفصولين، ومعالجة أوضاع الطلبة المنقطعين، والبدء باستعادة الحقوق العقارية والتوثيق المنهجي لملفات المفقودين.
مع ذلك، تكشف الحصيلة عن فجوات بنيوية عدّة، أبرزها غياب قانون شامل للعدالة الانتقالية، وعدم وجود لجنة حقيقة وطنية، ومحدودية مشاركة الضحايا، إضافة إلى ضعف القدرة المؤسساتية وسط بيئة سياسية وأمنية هشّة وأزمة اقتصادية خانقة. وتخلص الدراسة إلى أنّ ما تحقق يشكّل نواة مهمة لمسار واعد، لكنه يحتاج إلى إطار موحَّد ورؤية تنفيذية قابلة للقياس، لضمان انتقال فعلي يطوي صفحة الماضي ويضمن عدم إعادة إنتاجها.
المقدّمة
بعد أكثر من ثلاثة عشر عامًا من العنف الممنهج، والقمع السياسي، والانتهاكات الواسعة التي وصلت إلى كلّ بيت سوري تقريبًا؛ دخلت سورية، في كانون الأوّل/ ديسمبر 2024، مرحلة تاريخية جديدة، مع سقوط النظام السابق وبداية تشكّل الجمهورية السورية الجديدة. كان ذلك الحدث، بالنسبة إلى ملايين السوريين، محطة انتقالية معقّدة؛ إذ لم يُنهِ سقوط النظام تلقائيًا آثار ما تراكم من جراح وأضرار، ولم يمحُ ذاكرة الخوف والمآسي التي رافقتهم منذ انطلاق ثورتهم في آذار/ مارس 2011. وقد وجد السوريون أنفسهم أمام حقيقة مزدوجة: تبدّل في البنية السياسية من جهة، وانكشاف حجم المأساة من جهة أخرى، بما تحتويه من مقابر جماعية، وسجون محطمة، ووثائق رسمية تُثبت أن الانتهاكات لم تكن حوادث معزولة، بل سياسة دولة متكاملة.
على هذه الأرضية الثقيلة، برزت العدالة الانتقالية منذ اللحظة الأولى، بوصفها ضرورة مؤسسية وأداة لإعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع. ولم تعُد العدالة مطلبًا رمزيًا أو شعارًا أخلاقيًا، بل صارت شرطًا وجوديًا لتأسيس شرعية الجمهورية الوليدة؛ فالمجتمعات الخارجة من العنف الجماعي لا تتعافى تلقائيًا، ولا يمكنها أن تبني مستقبلًا من دون معالجة جذرية لإرث الماضي. وفي سورية تحديدًا، حيث عشرات آلاف المخفيين، ومئات آلاف المعتقلين والناجين من التعذيب، وملايين النازحين واللاجئين، يصبح الحق في الحقيقة وفي الإنصاف وفي ضمانات عدم التكرار جزءًا من النسيج الذي ستتشكل عليه هوية الدولة الجديدة.
ولأنّ السنوات الطويلة من القمع لم تخلّف ضحايا فقط، بل دمّرت مؤسسات الدولة وحرفت وظائفها، فقد جاء الانتقال السياسي محمّلًا بمهمة مزدوجة: استعادة الثقة بالعدالة، وإعادة بناء البنى القانونية والأمنية والإدارية، على أسس مهنية قائمة على سيادة القانون. ومن ثمّ، صار السؤال الأهم في هذه المرحلة: كيف يمكن تحويل العدالة الانتقالية من مطلب مجتمعي إلى منظومة وطنية؟
حملت السنة الأولى بعد سقوط النظام بذور الإجابة: خطوات دستورية، وإحداث مؤسسات جديدة، وفتح الملفات المغلقة للمفقودين، وبرامج أوليّة لجبر الضرر، وإصلاحات في الأمن والقضاء. لكنها كشفت أيضًا عن ثغرات كبيرة وتحديات بنيوية، ستُحدد، في السنوات المقبلة، شكل العدالة الممكنة، وحدود ما تستطيع الدولة والمجتمع إنجازه.
ومن ثم، تتناول هذه الدراسة قراءة شاملة لما تحقق خلال السنة الأولى، وما كان ينبغي تحقيقه وفق المعايير الدولية، وما لا يزال يعوق مسار البناء، في محاولة للاقتراب من السؤال المركزي: كيف تُترجم تضحيات السوريين إلى منظومة عدالة تعيد للناس حقوقهم وللدولة معناها؟
تناقش المادة محاور عدة: الوضع عشية السقوط؛ ما كان ينبغي فعله وفق المعايير والسوابق الدولية؛ ما تمّ القيام به؛ تقييم ما تم القيام به؛ التحديات التي تعوق مسار العدالة الانتقالية؛ ما يفترض القيام به مستقبلًا…
لقراءة المادة كاملة يرجى تحميل المادة


























