هناك دائما أمكنة تعصى على التصنيف. في أحيان نستخدم التشابيه في وصفها، كأن نقول مثلا إنّها أقرب ما تكون إلى مساكن أقيمت بجوار مدينة صناعيّة، أو نقول إنّها أشبه بمحطّات الإقامة المؤقتة حيث الفندق الصغير يعلو المطعم المجاور لمحطّة الوقود، وهذا ما نشاهده أحيانا في الأفلام الأميركيّة. أقول ذلك لأنّ رجلا ممّن عرفتهم في تلك المنطقة التي أسميتها الزهرانيّة، قال لي إنّ الزهرانيّة هي كذلك: مثل محطة استراحة في فيلم أميركي. وأنا وجدت تشبيهه مصيبا، على الرغم من إقامته هناك عشرين سنة، اتّسعت "الزاهرّانية" فيها إلى حدّ أنّها باتت تضمّ آلافا من المقيمين. لكنّ صاحبنا هذا، رغم التغيّر الذي ألمّ بها، بقيتْ في ذهنه على صورتها تلك. ذاك أنّه لم يستطع أن يواكب نموّها المتصل بتقريبها إلى مثالات يعرفها، كأن يقول مثلا إنها صارت قرية، أو أن يقول إنّها صارت مدينة، أو ضاحية مدينة… إلخ.
وقد أبقاها هناك، في وصفه الأوّليّ لها، أي في النواة الأولى التي بدأ منها تشكّلها. وأنا ، فيما رحت أكتب عنها روايتي التي أسميتها "مئة وثمانون غروبا"، وجدتني أستعير تشبيهه ذاك لأصفها. ذاك لأنّني، أنا أيضا، عييت في محاولتي نسبتها إلى أيّ من أنواع الأمكنة المعروفة. "هي مثل تلك الأمكنة المقامة لراحة المسافرين في الأفلام الأميركيّة"، رحت أقول لمن يسألني أيّ نوع من الأمكنة هي؟
هناك أمكنة تعصى على التصنيف. ربما لأنّ البشر، إذ ينزلونها، لا يكونون عارفين إلى أين سيصلون بها أو تصل بهم. ذاك لأنّ حصّة الأقدار في تشكّلها المستمرّ تغلب حصّتهم، هم الذين يقصر نظرهم حتّى عن تخيّل ما سيحدث لقطعة الأرض المجاورة للبيت الذي يبنونه. بين ما يسوق إليه القدر مثلا، الحروب التي تغيّر أحوال الناس وتهجّرهم عن أمكنة سكنهم، لتحلّهم في أمكنة يجدونها، فيما هم يؤسّسونها، غريبة عنهم. ومن صروف القدر أيضا أن يحلّ آخرون حيث أحلّ هؤلاء، ثمّ يتبعهم آخرون لينضافوا إليهم، ثمّ آخرون…
مَن يستطيع أن يجد إسما أو سياقا للوحة رسمتها أيدٍ كثيرة، وهي أيد متعجّلة وعابثة فوق ذلك. مكان مثل الزهرانيّة، كما أمكنة أخرى تماثله بغرابتها وفوضاها، هي ما باتت تذهب إلى وصفه، أو اختراعه، الروايات. أتذكّر هنا كتاب إيتالو كالفينو "المدن غير المرئيّة" وكتبا أخرى مثل "ثلاثيّة نيويورك" لبول أوستر، أو حتى الرواية الأكثر شهرة "مئة عام من العزلة" التي بنت مدينة ماكندو من خليط تخيّلات وأوهام. كما أتذكّر الأمكنة التي خرجت من المخيّلة الهاذية لخورخي بورخيس…
لقد تعقّدت الأمكنة وانحرفت عن الصور السابقة التي كانت لها. في أحيان يخطر لي أنّ ما نشاهده الآن من أمكنة تناسلت من الفوضى والهجنة سبق وجودها زمننا بكثير. في أحد الكتب التي تصف أحوال الناس في مصر القديمة، الفرعونيّة، بدت البيوت التي ارتُجلت ليقيم فيها العمال بناة الأهرام كأنّها، هي أيضا، قد خرجت من مخيّلة هاذية. كانت غريبة الهندسة والتصميم إلى حدّ أنني، فيما كنت أقرأ ذلك الكتاب، رحت أتخيّل أنّها لن تتسع لساكنيها إلا وهم نيام، وأنّهم، رغم ذلك، يدخلونها من باب واحد كما يُدخل في الأنفاق.
لا أعرف إن كان التصنيف العادي للرواية، ذاك الذي يصرّ على مدينيّتها، حتى وإن كان كثير من النقّاد قد أجروا ما يشبه إحصاءات دلّت إلى أنّ حصّة الأمكنة غير المدينيّة قد تكون غالبة، لا أعرف إن كان ذلك التصنيف قد وضع في حسبانه تلك الأمكنة الهجينة السابق وصفها. شخصيّا بقيت لسنوات كثيرة أجري، بيني وبين نفسي، إحصاءات بين ما هو ريفي وما هو مدينيّ في الرواية العربيّة، غافلا عن أنّ المدينة لم تعد مدينة وأنّ الريف لم يعد كذلك. في أحيان يتأخّر النقد عن مواكبة الحياة المتسارعة، ونحن نتأخّر معه فنبقى في المعادلات التي وضعها لنا على الرغم من أننا، فيما نكتب الروايات، نكون قد ابتعدنا ابتعادا شاسعا عنها.
قطبا المدينة والريف تداخلا واختلطا إلى حدّ أن تلك الولادات المكانية المتعجّلة التي أنجباها لم تعد تنشأ فقط في الأطراف بل إنّها باتت في داخل المدينة نفسها. وهذه، إضافة إلى كونها باتت وجودا متحقّقا، قسّمت المدينة، أو ما كان مدينة، أو ما نظنّ أنّه كان مدينة، إلى أنحاء منفصل بعضها عن بعض. مَن منّا يمكنه أن يتخيّل بيروت مدينة واحدة، أقصد أن يتخيّلها مجموعةً تضمّها دائرة واحدة أو محيط يشبه الدائرة. ربّما كنّا نراها كذلك، في سنوات ما قبل الحرب، أو ربّما كنّا متوهّمين أنّها كذلك. في سنة 1982، فيما كنت أكتب روايتي الأولى، كنت من بين أولئك المتوهّمين إذ تراءى لي أنّ الحرب فكّكت جسما كان متماسكا أو حسن الترتيب على الأقلّ. وكنت في تلك الرواية الأولى قد أخذت بيروت بكلّيتها، كيانا واحدا، جاعلا إياها حضنا دافئا لساكنيها، لكن قبل أن تصيبها الحرب وتشتّتهم إلى ما لا أعلمه من البلاد. هكذا يفعل بنا الحنين إلى الأزمنة التي سبقت الحروب: نروح نضع ما كان عيشا عاديّا في مصاف الأحلام.
وإنّي لأحسب أنّ مجرّد اعتبار بيروت كيانا قابلا للفهم هو أساس الحنين والحلم معا. ذاك أنّي انتبهت بعد سنوات لحقت أنّ الجرثومة دخلت إلى قلب الحنين نفسه. في محاولتي تذكّر ما كنا نسمّيه الأسواق، أو وسط المدينة (وكانت هذه المنطقة مكان الحنين الغالب في أكثر الكتابات، على الرغم من أنّها كانت قد كفّت، منذ عقود، عن أن تكون مكان إقامة) بتّ أرى أنّي أتذكّر المكان وإسمه منفصلين. أتذكّر الإسم الذي هو "خان أنطون بك" لكنّني لا أعرف على أيّ رقعة من الأرض أضعه.
كما أنني رحت أتجوّل باحثا عن أولئك الذين اعتقدت أنّهم ممثلون لصورة المدينة في زمن ما قبل الحرب. وإذ اخترت أن يكون هؤلاء من النساء اللاتي تقدّمن في العمر لكنّهن ما زلن جميلات، كنت كأنّني أبحث عن البقايا الباقية من المدينة المستمرّة في زوالها. من عايشوا زوال مدينتهم هم خارج تلك المعادلة التي تقسم الرواية بين مدينيّة وغير مدينيّة. سيكون عليهم أن يكتبوا عن مصائر المدن مثلما نجد في الأساطير القديمة. أن يشاهدوا مدينة وهي تزول، بكلّ ما يحمل ذلك من هول يذكّر بإحدى قصائد بدر شاكر السيّاب الذي جعل الشاربين في الحانة يتجمّعون مرتعدين حول رجل يروي لهم كيف شاهد بأمّ عينه المعبد وهو يغور، بقضّه وقضيضه، غارقا في الماء. في رواية "غناء البطريق" التي أصدرتها في 1998 جعلت تلك العائلة الصغيرة تنتظر، إلى ما لا نهاية، أن تنهض مدينتها من خرابها، فيما مدينة أخرى تقوم في الجوار. بدا لي أنّ هذه العائلة تقيم منتظرة، مصرّة على أن تعود إلى المدينة التي لن تقوم، ولا تفلح المدينة الجديدة، تلك التي تقام على عجل ويختلط الناس فيها بترتيب مفجع، لا تفلح في ضمّهم إليها.
هم في الوسط وسيظلّون هناك في الوسط. ذلك ما يذكّر بأحد أبطال فرانز كافكا الذي هدم بيته القديم ليبني بحجارته بيتا جديدا. غير أنّه، حين صار في الوسط، في ذلك الوسط إيّاه، بين بيت نصف مهدّم وآخر نصف مبنيّ، خارت قواه واضمحلّت.
ذلك المكان الجديد، المقام على عجل والفاقد للنسق، والمهجّن، ألحّ عليّ مرّة ثانية في رواية "مئة وثمانون غروباً" التي تأخّر ظهورها حتى 2008. فيها أيضا أعدت رسم ذلك المكان، لكن في خارج المدينة هذه المرّة، أمّا بشره فمجهولو المنابت، كأنّهم قدموا من أمكنة لا يعرفها أحد.
(مؤتمر "بيروت في الرواية، الرواية في بيروت")
"النهار"