بعد عام على تولّي السلطة الانتقالية مهامّها في سورية، السؤال الأبرز الذي يُفترض أن يشغلها يتمحور حول كيفية إعادة بناء الدولة على أسس جديدة، ولم تطرحه بعد بالجدّية المطلوبة منها، يتيح القول إن غياب الرؤية السياسية علامة على مأزق عميق يتمثل في سلطة تحاول تثبيت وجودها من دون أن تعلن مشروعاً يؤسّس لشرعية طويلة الأمد، ودولة تُدار وكأنها جهاز أمني وإداري بلا أفق اجتماعي أو سياسي.
تقف سورية اليوم أمام مفترق طرق معقد، فلا يُعقل أن سلطة انتقالية يُفترض أنها تحوز أدوات الحكم لا تمتلك تصوراً سياسياً مكتمل العناصر، في ظل مشهد إقليمي متقلب لا يمنح الدول الضعيفة ترف الخطأ.
لا تبدأ الكارثة دوماً بانفجار صاخب، إذ تبدأ أحياناً بالصمت؛ ذلك الذي يُسقِط الكلمات الضرورية من الخطاب العام، ويحذف من القاموس السياسي مفردة مفصلية مثل “الديمقراطية”، و كأنّ سورية، بعد كل ما مرّ بها، قادرة على أن تنهض من دون أن تُبصر الطريق الذي يقود إليها. كان عاماً طويلاً بما يكفي، إلا أنه خلا من أي إعلان أو إشارة أو حتى تلميحة إلى مفهوم الانتقال الديمقراطي.
الديمقراطية في خطاب السلطة ليست مشروعاً مؤجلاً، لكنها فعلياً مفهوم مستبعد، حيث يُنظر إليها فكرة “غير مناسبة”، و”أيديولوجيا غربية”
من هنا يبدو أن الديمقراطية في خطاب السلطة ليست مشروعاً مؤجلاً، لكنها فعلياً مفهوم مستبعد، حيث يُنظر إليها فكرة “غير مناسبة”، و”أيديولوجيا غربية” لا حاجة لسورية بها. ومن هنا تبدأ الكارثة إذا ما تحولت الديمقراطية إلى تهمة، وحين يصبح السعي إليها مجرّد نصيحةٍ غير مرغوب بها.
تُظهر أدبيات التحوّل الديمقراطي في تجارب أميركا اللاتينية وأوروبا الجنوبية، كما في كتابات أودونيل، شمايتر، وروستو، أن الانتقال السياسي لا يُقاس بإسقاط النظام السابق فقط، ولكن أيضاً بقدرة السلطة الجديدة على تأسيس قواعد “لعبة سياسية” مستقرّة تُنتج شرعية، وتُطلق المجال العام، وتفصل بين السلطة والدولة، فالديمقراطية، في هذا النموذج، عملية تبدأ في لحظة قبول السلطة أن احتكار القوة ليس الطريق نحو الشرعية، وفي لحظة اعترافها بأن المجتمع شريكٌ وليس تابعاً. ووفق هذه المقاربات، يفشل الانتقال حين تبقى “الدولة العميقة” أو “الفاعلون المسلحون أو العقائديون” هم المنتجون الفعليّون للسياسة. في حين يُعدّ مسار صياغة الدستور المقياس الأكثر شفافية لفهم نيات أي سلطة انتقالية، ومن خلال قراءة مشروع الإعلان الدستوري في سورية، تبدو الصورة أقرب إلى محاولة إنتاج نموذج يضمن السيطرة التنفيذية أكثر مما يضمن توازن السلطات، فالصلاحيات الواسعة للرئاسة، وضعف صلاحيات البرلمان والمجلس القضائي، وغياب الإشارات الصريحة إلى ضمانات الحرّيات السياسية، تكشف جميعها عن اتجاهٍ يُعيد تثبيت مركزية السلطة.
تفيد التجارب المقارنة في الدول الخارجة من النزاعات بأن الدساتير الانتقالية الناجحة هي التي تُبنى على قاعدة المشاركة الواسعة، وأنها تُستخدم لفتح المجال السياسي، فالدستور، في النهاية، إعلان هوية للدولة ومعنى وجودها، وحين يغيب هذا المعنى، يصبح الدستور مجرّد ترتيب إداري للصلاحيات المطلقة المحتكرة من السلطة التنفيذية أو الدائرة الضيقة في السلطة الانتقالية.
وعطفاً على ما سبق؛ تُظهر المرحلة الحالية أنّ الوثيقة المقترحة للإعلان الدستوري لم تؤدِّ الوظيفة المتوقعة من دستور مؤقت في سياق تحوّل سياسي. وبدلاً من أن تشكّل إطاراً لإعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع على قاعدة جديدة، اتجهت السياقات العملية نحو تكريس نمط الحكم القائم عبر توسيع نطاق الصلاحيات الممنوحة للسلطة التنفيذية وتقليص قدرة المؤسّسات الأخرى على ممارسة دور رقابي فعّال. تبدو إعادة توزيع السلطات داخل المشروع الدستوري محدودة للغاية، إذ تحتفظ السلطة التنفيذية بقدر من النفوذ، يجعلها الفاعل المركزي الوحيد في عملية صنع القرار. كذلك تدلّ أدبيات “الدولة ما بعد الصراع” على أن المراحل التي تلي سقوط الأنظمة السلطوية تكون حاسمة في تحديد مسار العقد الاجتماعي عقوداً، فالدولة الخارجة من الحرب تحتاج إلى بنية سياسية تُطمئن المجتمع، لا إلى منظومة حكم تُعيد توزيع القوة بين نخبٍ جديدة. كما تُبيّن لنا الدراسات المقارنة أن إعادة بناء الدولة تتطلّب ثلاث ركائز: أوّلها، مؤسّسات قادرة على إنتاج معنى سياسي يتجاوز منطق العنف. وثانيها، بيئة قانونية واضحة تعيد تعريف السلطة بوصفها أداة لا غاية. وثالثها، مجال عام مفتوح يُفسح للمجتمع القدرة على مراقبة السلطة، وفي حال غاب أحد هذه العناصر، تتجه الدولة نحو “الجمود السياسي”.
منذ تأسيسها، لم تفكّر الدولة السورية في نفسها إطاراً جامعاً للمجتمع، إنما جهازاً يمسك المجتمع من أطرافه، ويعيد تشكيله وفق احتياجاتها. ومع سقوط نظام الأسد، لم تُبنَ مرحلة تأسيس جديدة تُعيد إلى السوريين حقهم في التفكير في دولتهم.
الانتقال، بحسب التجارب التاريخية، يفترض قطيعة معرفية، قبل أن تكون قطيعة سياسية: قطيعة مع نمط التفكير الذي يجعل الطاعة بديلاً عن المواطنة، والقوة بديلاً عن الشرعية، والمركزية المغلقة بديلاً عن العقد الاجتماعي. غير أنّ أي سلطة تكون عاجزة عن إدراك هذه القطيعة ستبدو كأنها تسير على أرض صلبة لم يُفكّك عليها شيء؛ لا مفهوم الدولة، ولا وظيفة السلطة نفسها.
كان جوهر تاريخ الاستبداد في سورية مشروعاً منهجياً لتعطيل العقل السياسي، وإفراغ المجال العام من القدرة على إنتاج معنى مستقل. كان “اغتيال العقل” شرطاً لولادة الدولة الأمنية، وكان تدمير الوعي السياسي أداة لبقائها. وما نعاينه اليوم، ونخشى ونحذر منه، ألا يكون ما يجري خروجاً من مسار “تدمير الوعي السياسي” بقدر ما هو إعادة إنتاج له في شكل آخر. وتنتج هذه المقاربة بيئة سياسية “بينيّة”؛ فلا هي انتقال سياسي بمعناه الفعلي، ولا هي استقرار قائم. الشرعية في شكلها الراهن قائمة على إدارة الأمر الواقع، ما يسمح للسلطة بممارسة وظائفها الأساسية، لكنه لا يوفر قاعدة صلبة لبناء منظومة حكم مستدامة. ونتيجة لذلك، تتقلّص السياسة إلى وظائف أمنية وإدارية، وتتراجع المشاركة العامة لتصبح هامشية، فيما يبقى المجال المدني ضعيفاً وغير قادر على التأثير في اتجاهات القرار.
وحين تتجنّب السلطة الانتقالية لفظ كلمة “ديمقراطية”، فذلك يعود إلى غياب الحاجة إليها في المخيال السياسي للسلطة، فالديمقراطية بنية رمزية تقوّض كلّ ما تأسّست عليه الدول السلطوية، من التشاركية، إلى الرقابة، وسيادة المجتمع على الدولة، لا العكس. ومن هنا نقول إنّ تجنّب الديمقراطية ما هو إلا إعادة إنتاج لـ “العقل المقلوب”، الذي يربط السلطة بالاستقرار، ويربط المجتمع بالفوضى، ويجعل من احتكار القرار فضيلة سياسية، لا خطراً على الدولة.
ما تحتاجه سورية اليوم عقد سياسي جديد، يجب أن يقوم على أسس واضحة، متمثلة بتوزيع متوازن للسلطات، ومشاركة سياسية حقيقية
الأبعاد السياسية لهذا التوجّه أعمق من مجرد تفاصيل مؤسّسية، فالإعلان الدستوري وما تبعه عكسَ مقاربة تنظر إلى المرحلة الانتقالية باعتبارها امتداداً لإدارة الأزمة، وليس فرصة لإعادة تأسيس الدولة على قواعد جديدة. وفي هذا السياق، تصبح الديمقراطية، بوصفها منظومة تضمن التوازن بين السلطات وتوفّر تمثيلاً سياسياً فعلياً، شرطاً عملياً لإعادة بناء الدولة، لا مطلباً نظرياً، فغيابها لا يؤدّي فقط إلى إضعاف شرعية السلطة الانتقالية، بل يعيق القدرة على إعادة توحيد المجال السياسي ضمن إطار مؤسّسي قابل للاستمرار. وغياب رؤية سياسية متكاملة يُضعف قدرة الدولة على أداء دورها مؤسسة جامعة، وهذه الظاهرة، إذا تُركت من دون معالجة، قد تُعيد تكوين بنية موازية للسلطة تُعرقل أي محاولةٍ لاحقةٍ لتأسيس عقد سياسي جديد.
ما تحتاجه سورية اليوم عقد سياسي جديد، يجب أن يقوم على أسس واضحة، متمثلة بتوزيع متوازن للسلطات، ومشاركة سياسية حقيقية، ومجال عام مفتوح للنقاش، ومساءلة تحمي السلطة من نفسها وتحمي المجتمع من العودة إلى الماضي، ورؤية اقتصادية– اجتماعية تُعيد تعريف الدولة حامية المواطنين لا حارسة أبواب القوة.
المطلوب ليس معجزة؛ فهو ببساطة انتقال سياسي يليق ببلد خرج من حرب وخراب وتمزّق، وأدرك أن بقاءه لن يتحقّق إلا بفكرة أكبر من القوة، وبشرعية أعمق من الغلبة، وبعقد أوسع من أي بنية أيديولوجية مغلقة.
- العربي الجديد



























