قد يكون من غير المنصف بالنسبة لسلطات “العهد الجديد”، تقديم تقييم نهائي لتغيرات معيشة السوريين في اللحظة الراهنة، بعد مضي عام على إسقاط نظام الأسد. كما أنه يمكن تقديم هذا التقييم من زوايا مختلفة، أكثر إنصافاً ودقة من الناحية الاقتصادية. فمقياس معيشة السوريين صعب التعريف. فيما مؤشرات أخرى، كمعدل التضخم وسعر صرف الليرة والحد الأدنى للدخل، أكثر دقة. لكن هذه المؤشرات في الوقت نفسه، لا تجد بالضرورة ترجمة مباشرة في حياة السوريين المعيشية.
أما عدم الإنصاف فيكمن في التركة الاقتصادية الكارثية التي ورثتها سلطات “العهد الجديد” عن نظام الأسد، ومحدودية المدة الزمنية الجديرة بالقياس. فالحكومة الانتقالية التي تدير البلاد اليوم، لم تحظ بتشكيلتها النهائية إلا في نهاية شهر آذار/مارس الفائت. ويمكن اعتبار الأشهر الثلاثة التالية، فترة لازمة لمراجعة كل وزير للملفات والتعقيدات التي سيتولى معالجتها في وزارته. مما يعني أننا نتحدث عن ستة أشهر، هي التي كان فيها الأداء الاقتصادي للحكومة جدير بالتدقيق. وهي الأشهر التي لحظنا فيها ضبط إيقاع القرار الاقتصادي، وتجاوز مرحلة الفوضى التي وسمت فترة الأشهر الثلاثة الأولى بعد إسقاط الأسد.
وبالعودة إلى المؤشرات الاقتصادية، وإن اعتمدنا المصادر الرسمية، فتراجع معدل التضخم من 170%، عشية سقوط نظام الأسد، إلى نحو 15% حالياً، هو مؤشر إيجابي بلا شك. ويستحق هذا الرقم -الذي أعلنه حاكم المصرف المركزي، عبد القادر حصرية قبل أيام- وقفة تدقيق في معناه. فمن المعلوم أن معدلات التضخم في السنوات الأخيرة من حكم الأسد تجاوزت 100% سنوياً. مما يعني أن القوة الشرائية للسوريين كانت تنخفض إلى أقل من النصف، في كل سنة. أما في السنة الأولى بعد رحيله، فنحن نتحدث عن انخفاض في القوة الشرائية بنسبة 15%، وفق ما يعنيه كلام حاكم المركزي.
ولا نعرف إن كان الرقم الذي قدّمه الحاكم، يشمل تأثير الرفع الكبير لأسعار الكهرباء والانترنت قبل شهر. لكن يمكن القول إن تكاليف معيشة السوريين ارتفعت بشكل طفيف، مقارنة بنسبة ارتفاعها خلال سنة ونصف سابقة. ووفق “مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة” -الذي تُعدّه صحيفة “قاسيون” الصادرة عما يُعرف بـ”حزب الإرادة الشعبية”، الذي يقوده السياسي والاقتصادي السوريّ، المقرّب من روسيا، قدري جميل- فإن وسطي تكاليف معيشة الأسرة السورية المكونة من خمسة أفراد، ارتفعت بنحو 120% في الفترة الممتدة بين منتصف 2023 ونهاية 2024،عند سقوط نظام الأسد. أي بوسطي 80% للعام الواحد. هذا إن تجاهلنا مؤشر التضخم الذي يشير إلى تراجع بنسبة 170% في مستوى المعيشة.
إن تحدثنا إلى رجل الشارع البسيط، وسألناه عما اختلف في معيشته عما كان في عهد الأسد، فسيخبرنا أنه لم يلمس فرقاً، أو سيقول إن التكاليف ارتفعت. وهو محق. فما حدث هو أن هامش تراجع مستوى المعيشة انخفض من نسب تتجاوز 80% سنوياً –بصورة وسطية- إلى نسب تتراوح حول 15%. وهو إنجاز، إلى حدٍ ما.
وإن انتقلنا إلى مؤشر سعر الصرف، وتجاهلنا الارتفاع الأخير لليرة على وقع تصويت مجلس النواب الأميركي بإلغاء قانون قيصر -وهو ارتفاع نفسي مؤقت على الأرجح- واعتمدنا سعر الصرف السابق قبل الارتفاع الأخير عند نحو 12000 ليرة للدولار، فنحن نتحدث عن تحسّن بنسبة 20% لسعر صرف الليرة، خلال عام، منذ سقوط الأسد. ويرفض الكثير من المراقبين، وحتى من عامة السوريين، الحديث عن أثر إيجابي لسعر الصرف على معيشة السوريين، نظراً لاستمرار تذبذبه، ولما يمكن تسجيله من مؤشرات تسعير بناء على “دولار” أعلى من الرائج في السوق السوداء.
أما بالاستناد إلى مؤشر الحد الأدنى للدخل، فيمكن احتساب التحسّن بالأرقام الدقيقة. فقد ارتفع الحد الأدنى للأجور، خلال عام، من نحو 18.5 دولار إلى نحو 62.5 دولار. لكن انعكاس ذلك على الحياة المعيشية قد يكون غير ملحوظ بشكل كافٍ من جانب رجل الشارع البسيط. ولفهم هذه المعضلة، يمكن الاستناد مجدداً إلى “مؤشر قاسيون”، في تقرير تم نشره في نهاية أيلول/سبتمبر الفائت، يوضح أن تغطية الحد الأدنى للأجور، لوسطي تكاليف المعيشة للأسرة السورية، ارتفع من نسبة 1.9% إلى نحو 6.5%. أي أن الحد الأدنى للأجور لا يزال بعيداً للغاية عن احتياجات السوريين الفعلية. لكن قدرته على التغطية، تضاعفت بالفعل مرتين.
يبقى مؤشر أخير، لا توجد أرقام رسمية أو حتى تقديرات غير رسمية تتعلق به، حتى الآن. وهو معدل البطالة. ومن المعلوم أن تسريح عدد كبير من موظفي القطاع العام والجيش والقوى الأمنية السابقة، خلّف بطالة جديدة مضافة إلى تلك السابقة. كما أن انفتاح السوق على المستوردات بشكل غير خاضع لأية ضوابط، في الأشهر الأولى بعد سقوط النظام، أدى إلى إغلاق عدد كبير من الورش الصناعية الصغيرة والحرفية، مما زاد من نسب العاطلين عن العمل. لكن في المقابل، ولّدت التغيرات في وجهات النشاط الاقتصادي بعد سقوط الأسد، فرص عمل جديدة. ويصعب الجزم، إن كانت البطالة ازدادت أو تراجعت، مع غياب المؤشرات الرسمية. لكن يمكن القول، بناء على ملاحظات من مصادر محلية، إن شرائح واسعة من السوريين تواجه مشكلة في توفير فرص عمل جديرة بتوفير حياة الكفاف.
يبقى أن دور الحوالات الخارجية ازداد تأثيراً، وفق تصريحات حاكم المركزي. فوسطي الحوالات السنوية، كان يتراوح ما بين 1.5 و2.5 مليار دولار في السنوات الأخيرة لحكم الأسد. بينما ارتفع هذا الرقم إلى 4 مليارات دولار، في العام الجاري. ولذلك انعكاساته المباشرة الإيجابية على النشاط الاقتصادي، بطبيعة الحال.
في الختام، لم يكن أي اقتصادي متخصص يراهن على قفزات نوعية في معيشة السوريين، بصورة آنية، بعيد سقوط الأسد، لأن الاقتصاد السوري المدمّر يحتاج إلى عملية ترميم شاملة، الأمر الذي يتطلب عملاً تراكمياً لسنوات. لكن رغم ذلك، كان هناك تحسّنٌ تمثّل في تخفيض نسب التراجع السنوي لمستوى المعيشة. والرهانات الإيجابية أصبحت أفضل الآن، بعد اتجاه “قانون قيصر” نحو الإلغاء النهائي المرتقب، قبيل نهاية العام.
- المدن



























