منذ عام 1997، وكلما طرحت ارقام الموازنة للبحث، تكاثرت التعليقات حول ما هو مطلوب، وخطوات التصحيح، وزيادة الانتاجية.
اليوم، نقرأ تصريحات رسمية ومقالات اقتصادية جذورها في الفكر الكلاسيكي، أي تحصيل موارد كافية للإنفاق او مقاربة لحجم الانفاق، واعتماد الضرائب التصاعدية لتحقيق مقدار أفضل من العدالة، وتوسيع المنافع الاجتماعية لإفادة الطبقات ذات الدخل المحدود.
ان هذه المنهجية الفكرية مفيدة في بلد تتوافر فيه فاعلية الادارة العامة، وأكثر انتاج أهله يتحقق ضمن حدوده، والاستقرار الامني في الداخل ومع الخارج مؤمّن وثابت. كل هذه المستلزمات غير موجودة في الواقع اللبناني، لذلك علينا التفكير في مناهج اخرى ومنطلقات فيها مقدار من الاستشراف، ومقدار أكبر من تحسس لنفسية اللبنانيين العاملين في لبنان وخارجه.
كثر عبروا عن دهشتهم من مقاييس النمو التي تحققت للبنان عامي 2008 و2009 خلال سنوات الازمة المالية والاقتصادية العالمية المستمرة حتى تاريخه، وخصوصا في اوروبا الغربية واليابان.
كانت هناك ثلاثة اسباب رئيسية للنجاح المتحقق في السنتين المنصرمتين والتي تعززت بفوائض على ميزان المدفوعات وازت أربعة مليارات دولار عام 2008، وثمانية مليارات دولار عام 2009.
الاسباب الثلاثة للنشاط اللافت هي:
1- تلهف اللبنانيين لتنشيط مؤسساتهم واعمالهم بعد خسائر حرب صيف 2006 واضرار الاعتصام المشين. وكانت المعونات المقررة بعد هذه الحرب ، وبعض معونات مؤتمر باريس 3 اخذت طريقها للمساهمة في اعادة الاعمار وتنشيط الاقتصاد.
2- الخسائر التي واجهت مستثمرين ومودعين لبنانيين وعرباً في البلدان الغربية مما حفز اصحاب الاموال على التوجه الى لبنان مودعين ومستثمرين، وقد ساعد انتشار المصارف اللبنانية اقليمياً ودولياً على استقطاب اللبنانيين والعرب.
3- اقرار مصرف لبنان سياسات لتحريك موارد الاحتياطات الالزامية للمصارف اللبنانية بحيث تصير عنصراً مساعداً على النمو في مجالات تحتاج الى التمويل، مثل المشاريع الزراعية المتطورة، المشاريع الصناعية، المشاريع السياحية، المشاريع البيئية، والتسليف السكني، والتسليف للتحصيل العلمي الجامعي.
لقد استطاع مصرف لبنان ان يكون العنصر الفاعل في تحريك النمو لان خياراته لم تكن مقيدة بقرارات سياسية يفترض ان تكون توافقية. واستطاع ان يوسع برامجه لان استقرار المصارف اللبنانية والعملة الوطنية ساهما في زيادة الودائع بنسب مرتفعة كانت تراكميا على مستوى 15 في المئة عام 2008 و 23 في المئة عام 2009، الامر الذي انعكس ارتفاعاً في الاحتياطات المجمدة والتي تحول قسم ملحوظ منها الى تسهيلات انمائية.
اليوم، وعلى الصعيد المالي والاقتصادي، لدينا ثلاثة اهداف رئيسية تعتبر في رأس قائمة الاولويات ولا تغطي، في حد ذاتها، كل ما هو مطلوب:
1- علينا خفض حجم الدين العام قياساً بالدخل القومي. وهذه النتيجة الضرورية وغير الكافية، ما دام أصل الدين المتراكم مستمراً وفي تصاعد، لا تتحقق ما لم يتجاوز معدل النمو السبعة في المئة سنوياً ويستمر على هذا المستوى أو على مستوى أعلى سنوات.
2- البدء بتحسين تجهيزات البنية الاساسية وتطويرها لكفاية حاجات اللبنانيين أفراداً ومؤسسات من خدمات الكهرباء والهاتف والمياه والانتقال ونظافة البيئة، ومن المؤكد ان الجهود في كل هذه المجالات كانت مجمدة خلال السنوات المنصرمة منذ عام 1998، بل كان هناك تردّ لخدمات الاتصالات على نطاق واسع لان لبنان بقي في مجال خدمات الاتصالات الحديثة – الخليوية والانترنت وشبكات الخدمة العريضة – متخلفا عن بلدان دخلت هذه القطاعات بعده بسنوات مثل الاردن ومصر وقبرص، الخ.
ان عمليات التحسين والتطوير المطلوبة تحتاج الى خطط مدروسة لا يمكن ان تؤمنها على مساحة الوطن سوى السلطات العامة التي كانت غارقة في ممارسات الخمسينات، ولا نقول الستينات – إذ شهد عقد الستينات أكبر تطوير للادارة العامة الفرنسية بمبادرة من الجنرال ديغول – والنظام الاداري والسياسي اللبناني الموروث من فرنسا لم يتطور سوى جزئيا على الصعيد السياسي مع انجاز دستور الطائف.
3- تحقيق الهدف الثاني يستوجب تشجيع استثمار اللبنانيين والعرب والاجانب في المشاريع الحيوية للبنان. وجدير بالذكر ان دراسات وزارة الطاقة واعدة في هذا المجال، ونحن على ثقة أن دراسات قطاع الاتصالات ستكون مميزة لان الوزير المعني خبير في هذا المجال وهو كان قد هندس التسهيل المالي الاول والاكبر في حينه لإحدى الشركتين التي حازت رخصة انشاء شبكة خليوية عام 1994.
يبقى المناخ المطلوب للانجازات الملحة والتي من دونها يتردى وضع لبنان بحيث يصير أشبه بالدول المتخلفة والغارقة في الجمود.
ثمة ثلاث ملاحظات واردة في ورقة البنك الدولي عن برنامج انشاء شركة استراتيجية انمائية مع لبنان.
تلحظ الورقة بضع قضايا حيوية، نشير الى ثلاثة منها لعلها تساهم في ايقاظ افكار الاقتصاديين التقليديين والسياسيين اللبنانيين.
بحسب هذه الورقة "الاحتكار، وضعف القوانين، وعدم التقيد بالقواعد الاخلاقية والرسمية تفسر الى حد بعيد لماذا ما يقارب ثلث حجم الاقتصاد اللبناني هو اقتصاد غير رسمي".
السؤال يطرح، اذا كان ثلث الاقتصاد اللبناني غير رسمي – أي، بكلام آخر، غير مشمول بالإحصاءات الرسمية – الا يعني ذلك ان حجم الدخل القومي أكبر مما هو رسميا؟
لقد اشرنا الى هذا الموضوع تكراراً، وطالبنا بتبني سياسات تشجيع المتعاملين خارج الاقتصاد الرسمي على شرعنة أعمالهم، ومن الشروط الضرورية لذلك عدم زيادة الضريبة على أرباح الشركات، وعدم رفعها على الفوائد المصرفية، واعتماد ضريبة مباشرة على الربح العقاري شرط تثقيل هذه الضريبة على عمليات الشراء والبيع وخفضها تدريجا مع مرور الوقت على انجاز هذه العمليات بحيث تزول كليا بعد خمس سنوات.
وتشير ورقة البنك الدولي الى الامكانات الكبيرة الممكن تحقيقها في مجال تقنيات الاتصالات على انواعها، وتؤكد المذكرة – الدراسة ان الانتاجية تزيد بنسبة ملحوظة مع تطوير هذا القطاع وتحقيقه مستويات معاصرة، سواء على صعيد الخدمة أو التسعيرة.
والملاحظة الثالثة، وهي ربما الاكثر تعبيراً عن السياسات المتبعة حتى تاريخه والديماغوجيات المعممة في وسائل الاعلام، هي الآتية:
"تراكم الطاقات والقدرات البشرية في لبنان يتأثر سلبا بالمعدلات المنخفضة لمردود التعليم (أي المعاشات والتعويضات المنخفضة للمتعلمين) واستقطاب الكفاءات والمهارات الى الخارج. وعلى ما يبدو، ليس هناك تقدير للمهارات والكفاءات في لبنان. ان مستوى التعليم لدى المهاجرين اللبنانيين أعلى بصورة ملحوظة مما هو لدى المقيمين. وقياساً على انساق الهجرة على الارجح نصف جيل بكامله (أي مواليد فترة 25 سنة) سيكونون عاملين خارج لبنان قبل بلوغ سن الـ 59".
اللبنانيون العاملون في الخارج، أفراداً ومؤسسات، كانوا بالفعل قاعدة التطور والتآخي، ومهمتنا تتمثل في تأمين شروط اجتذابهم الى لبنان، وذلك لن يكون الا بانحسار الاعتبارات الطائفية وتنور السياسيين واعتماد سياسات ضريبية مشجعة تناقض التوجهات الكلاسيكية الحالية.
"النهار"