تقدّم الأخبار المتتالية الآتية من سوريا صورة شديدة التعقيد يصعب جمع كل تفاصيلها للتمكن من رؤية الاتجاه الذي تؤول إليه الأمور.
هذه عيّنة عن الأخبار السورية خلال يوم واحد:
الأمن السوري يلقي القبض على «والي» تنظيم «الدولة الإسلامية» في دمشق.
وزيرا الخارجية والدفاع السوريان يجريان محادثات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
غارات أردنية تستهدف تجار أسلحة ومخدرات ومصانع في ريف محافظة السويداء جنوب سوريا.
عملية أمنية في جبلة باللاذقية ضد مجموعة متورطة في اغتيالات وتفجير عبوات في ريف جبلة في محافظة اللاذقية شمال سوريا.
الأمن السوري يشدد إجراءاته في حلب بعد اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية.
وزير الحرب الإسرائيلي يتعهد بالبقاء في جبل الشيخ.
في المقابل، نشرت صحف عالمية تقارير تحلّل جوانب خفيّة تفسّر هذه الأخبار.
من ذلك تقرير لصحيفة «واشنطن بوست» عن قيام إسرائيل منذ الأيام الأولى لسقوط نظام بشار الأسد بنقل شحنات من الأسلحة والمعدات العسكرية إلى ميليشيات درزية في الجنوب السوري، وقيامها بتدريب مقاتلين منها في مناطق تسيطر عليها ميليشيات «سوريا الديمقراطية» التي يقودها الأكراد.
كشفت تحقيقات أخرى، نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» كيفية انتقال الأسد وأخيه، في فيلات وشقق فاخرة في موسكو، كما نقلت تفاصيل عن احتفالات باذخة يقيمها أبناؤهم، ووثّقت تحرّكات مسؤولين كبار موجودين في روسيا مثل علي مملوك، وعلي عباس، وعبد الكريم إبراهيم، وغسان بلال، وهم متهمون بالتعذيب والعنف الجنسي وإدارة شبكات مخدرات. قامت وكالة الأنباء رويترز أيضاً بتحقيقات استقصائية كشفت فيها تمويل بعض من هؤلاء المسؤولين السابقين، مثل رامي مخلوف، وكمال حسن، وسهيل الحسن، لميليشيات علوية في الساحل، وعملها على تنفيذ انتفاضات على الحكومة المركزية.
في المقابل نشرت تقارير أخرى تشير إلى إشكاليات تتعلّق بسياسات الدولة الجديدة ومنها تقرير آخر حول السجون في سوريا وعودة بعض ممارسات النظام الأسدي، كالتعذيب ووقوع وفيّات، وعدم السماح بتمثيل قانوني للموقوفين والمتهمين، والابتزاز المالي لبعض الأهالي، وكذلك تقارير عن الانتهاكات الجسيمة التي قامت بها فصائل محسوبة على السلطة في الساحل السوري في آذار/ مارس الماضي، وذلك بعد محاولات تمرد قام بها الفلول، وكذلك تقارير عن انتهاكات جرت في تموز / يوليو في محافظة السويداء خلال اشتباكات عنيفة بين عشائر بدوية ومجموعات مسلحة درزية مما أدى لمقتل مئات الأشخاص وتهجير أعداد كبيرة من العشائر.
ينتظم هذه الأخبار والتقارير والتحقيقات خطّ رئيسي يتعلّق بصراع مركزي هائل على وحدة سوريا وتقسيمها.
مثّل سقوط نظام الأسد في 8 كانون أول/ ديسمبر من العام الماضي، وصعود حكومة أحمد الشرع نقطة مفصلية في هذا الصراع. تمكّنت السلطات الجديدة من خلق عامل جذب إقليميّ وعربيّ، عبر احتضان تركيا والسعودية وقطر والأردن وغيرها لهذه السلطات؛ وعامل جذب دوليّ، شاركت فيه تجمّعات دولية كبرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا، كما تمكّنت السلطات الجديدة من لَأم التصدّعات مع الجانب الدولي المقابل، المتمثل بروسيا والصين.
في الاتجاه الآخر، برز تكتّل مقابل مناهض لتوحّد سوريا لعبت فيه إسرائيل، منذ اللحظات الأولى لسقوط نظام الأسد، الدور الأكبر، عبر تقوية الميليشيات الدرزية في الجنوب، والتنسيق مع قوات «حزب العمال الكردستاني» (تحت مسمّيات مختلفة) الطامحة للحفاظ على مناطق سيطرتها الواسعة شمال وشرق سوريا، وكذلك فلول النظام في مناطق الساحل السوري.
من نافل القول إن الانتهاكات التي جرت في الساحل والسويداء، والإجراءات السياسية المثيرة للجدل فيما يخص الحوار الوطني، والإعلان الدستوري، والعدالة الانتقالية، وعودة بعض الممارسات الشائنة في السجون، وسوء التعاطي مع التوتّرات الطائفية، عوامل ساهمت بدورها في تصليب جبهة خصوم الحكومة السورية الجديدة، وفي إعطاء أعدائها مبررات سياسية.
ما يمكن المراهنة عليه، في ظل هذا المخاض الهائل، هو وجود قاسم مشترك أكبر بين السوريين يسعى للمشاركة في نهضة جديدة للبلاد، مع معالم انفتاحها الاقتصاديّ والسياسي والجغرافي على العالم، وأن هذا يتلاقى مع اتجاه عالمي لإنهاء الكارثة السورية، إذا لم يكن لإنهاء الاستعصاء التاريخي الهائل الذي ضرب سوريا خلال حقبة الأسدين، فلفتح الطريق على عودة اللاجئين السوريين المنتشرين في أنحاء الأرض، ولوقف النزيف الدمويّ في المنطقة العربية المنكوبة، بأنظمة الاستبداد وإسرائيل.
- القدس العربي


























