منذ أربعة وثلاثين عاماً، وجماهير الأرض الفلسطينية التاريخية، تحيي هبّة يوم الأرض، يوم انتفضت جماهير الهوية الوطنية الفلسطينية ضد مخططات المصادرة والضم والإلحاق التهويدية، تلك التي بدأتها سلطات الاحتلال منذ العام 1948؛ مرة تحت إسم "أملاك الغائبين" التي أوجبت مصادرتها بقانون صادر من الكنيست، ومرّات تحت أسماء براقة من قبيل "تطوير الجليل والمثلث والنقب"، إلى حد أن صار لهذا "التطوير" حقيبة وزارية منذ أن تولاها شمعون بيريز في حكومة إيهود أولمرت الأولى، مروراً بحكومة اليمين القومي والديني المتطرف بزعامة بنيامين نتنياهو وداعي الترانسفير، راعي المواخير السابق أفيغدور ليبرمان؛ وهي الحكومة الأكثر استفزازاً في تاريخ الحكومات الإسرائيلية، ضد الأرض وهويتها.
وها هي ذكرى هذا العام، تجيء في وقت تمتدّ فيه مخططات "التطوير التهويدية" إلى مدينة القدس، العاصمة التاريخية لأرض الوطن الفلسطيني، في محاولة لإيجاد معادلة جديدة، والمضي بها للوصول إلى الإبقاء على أكثر من عُشر السكان بقليل حتى العام 2020، ما يعني طرد أو "التخلص" من حوالي 22 في المئة من مواطنيها الفلسطينيين، وإحلال مستوطنين إسرائيليين مكانهم، وجعل المدينة مرتعاً لأغلبية إسرائيلية/ يهودية، الفلسطينيون فيها مجرد "مجموعات أقلّويّة" موزعة هنا وهناك، من دون الإبقاء على تجمع فلسطيني واحد متجانس، وهذا قمة الاستهتار بالعالم وقيمه.
يحصل هذا، إضافة إلى مجموع الإجراءات الاحتلالية، مثل بناء "كنيس الخراب"، والمضي في أعمال الحفر تحت المسجد الأقصى، واعتبار المواقع الأثرية الفلسطينية مواقع ذات هوية إسرائيلية، والشروع في بناء مواقع استيطانية، تغيّر من هوية القدس بطابعها الفلسطيني العربي، وتفصل بينها وبين الضفة الغربية، وحتى فصل شمال الضفة عن جنوبها، لمنع تواصل ما يُفترض أنها أراضي الدولة الفلسطينية القادمة.
لكن الأخطر على الأرض وهويتها، وعنوان قضيتها، هي تلك الحالة التي يعيشها النظام الرسمي العربي، كما النظام السياسي الفلسطيني المنقسم على ذاته، وكلاهما يفتقد حسّ الصراع، ما قاد ويقود حتى اللحظة، إلى تغييب أي رؤية استراتيجية موحدة، أو حتى تكتيكية؛ فلسطينية أو عربية. فما يجري فلسطينياً للأسف، إنما هو انعكاس مباشر لحالة اللاأدرية وانعدام الفاعلية والأوزان العربية، واستبعاد الصراع أو طرائق إدارته عن مجمل معطيات الحراك السياسي أو الديبلوماسي الإقليمي والدولي، الأمر الذي لم يؤثر على الانقسام السياسي والجغرافي الفلسطيني فحسب، بل بات ولمزيد الأسف، يُراكم المزيد من هشاشة أدوات تفكيك منظومة التفاوض، في الوقت الذي يجري فيه تغييب أي رؤية لمقاومة جماهيرية منظمة، شعبية، لا فئوية ولا فصائلية.
لهذا تحديداً، لم تجد حكومة اليمين القومي والديني المتطرف في إسرائيل، من يحاول أن يقيم أي نوع من التوازن في مواجهة صلفها وغرورها وغطرستها، لا في الجانب الفلسطيني ولا في الجانب العربي أو الإقليمي. وها هي تمضي في تنفيذ سياسات التطهير العرقي التي بدأتها منذ العام 1948، في محاولة متجددة لتهويد وأسرلة ما فاتها تهويده وأسرلته، طوال أكثر من ستين عاماً، مروراً بالأعوام الأربعة والثلاثين، منذ أن هبّت جماهير الأرض وحراس هويتها الفلسطينية، دفاعاً عن قانون الانتفاض والمقاومة للتشبث بالأرض، في مواجهة قوانين الاحتلال والإحلال الكولونيالي.
وها هي ذي معركة الأرض تستمر وتتواصل، ولكن للأسف في ظل شروط ومعطيات أقل ما يقال فيها، أنها بحاجة إلى رؤية استراتيجية لإدارة الصراع، لا لإدارة أزمات التفاوض، أو أزمات الاستمساك بالنهج اللفظي للمقاومة ليس إلاّ، وتحويلها إلى مجرد شعار موسمي، يجري توظيفه للصالح الفئوي الخاص، من دون محاولة الاقتراب من ابتداع استراتيجية عامة لمجموع الشعب وقواه وحركته الوطنية، في لحظة فلسطينية أكثر خصوصية في احتياجها لصهر طاقات الشعب الكفاحية، بعيداً من نزعات ونزاعات الانفلاش السلطوي لطرفي النظام السياسي، وهما يعبّدان الطريق لأوهام النخب وتوهماتها؛ إن ما يسعون إليه إنما هو أحد الأهداف العليا للشعب الفلسطيني، وما هو بالتأكيد كذلك، والأرض.. هي المخرز الذي يفقأ عين كل مُكابر أو مُعاند.
"المستقبل"




















