نتائج الانتخابات العراقية كانت مقياساً لتطور الرأي العام العراقي خلال السنوات الأخيرة.
وفي هذا المجال يشكل تقدم "القائمة العراقية" بزعامة إياد علاوي على لائحة "ائتلاف دولة القانون" بزعامة نوري المالكي، قفزة غير بعيدة في معانيها عن التقدم الذي أحرزه في انتخابات سابقة، المالكي عن حلفائه السابقين في لائحة "الائتلاف الوطني".
المالكي تسلم رئاسة الحكومة تحت شعارات المركزية وتجاوز الطائفية لمصلحة الدولة الواحدة، وكانت ذروة نجاحه معركته ضد الميليشيات خصوصاً الميليشيا الصدرية.
كان صعود المالكي متزامناً مع انحسار موجة العنف المذهبي الشيعي – السني، وإيذاناً باستعادة سنّة العراق الى العملية السياسية.
واليوم يشكل تقدم علاوي مع بقاء المالكي في الموقع الثاني تقدماً في الاتجاه نفسه، اي غير المذهبي، وغير الفيديرالي، والأقرب الى استعادة العلاقات العربية للعراق على حساب التصاقه بإيران في السنوات الأولى لوصول الشيعة الى الحكم.
إذا احتسبنا مقاعد القائمتين الأولى والثانية نجد أنها قريبة من تشكيل ائتلاف حكومي يكرس الاتجاه المذكور بمرحلتيه.
لكن ما نشهده واقعياً هو اختلاف اتجاهات الناخب العراقي عن اتجاهات كتله السياسية كما أصبحت ممثلة في البرلمان.
فالطرفان الأقرب سياسياً، أي المالكي وعلاوي، يبدوان الأبعد من ناحية الخصومة الانتخابية، التي لم تفسح المجال حتى الآن الى تظهير المشترك السياسي.
لا بل هناك ظاهرة أخطر. فالطموحات السياسية الشخصية المرتبطة بشخص رئيس الحكومة المقبل، قد تؤدي الى انتكاسة قوامها عودة الائتلاف بين المالكي وحلفائه الشيعة القدامى: الحكيم والصدر والجلبي.
أي أننا أمام خطر انبعاث أجواء مذهبية مناقضة لمعاني نتائج الانتخابات تهدد باعادة السنّة الى أجواء العزلة، وتثبت لهم ان الأبواب موصدة أمام مشاركة فعلية في السلطة، مع ما يعنيه ذلك من انتعاش الاتجاهات القريبة الى "القاعدة" والبعث المقاتل.
الأكراد ليسوا بعيدين عن الاستعداد لاستئناف الحلف السابق، حلف ما بعد غزو 2003، خصوصاً اذا كان استبعاد "قائمة علاوي"، وهو الاسم الحركي لعودة السنّة، ثمنه تنازلات لمصلحة النزعة الفيديرالية الكردية، في الدولة وعلى الأرض.
والطريف هنا أن هذه العودة إذا حصلت، تتم في مواجهة الاميركيين لا بالتحالف معهم. فالاميركي هو المتهم اليوم بأنه يريد استعادة البعث الى الحكم، وأنه في سبيل تأمين انسحاب هادئ في 2011، وفي سبيل ابقاء نفوذه على قاعدة عراقية مستقرة، يسعى جاهداً لاعادة السنّة الى الشراكة الحقيقية في الحكم، والى علاقات طبيعية مع الجوار، غير الايراني.
والأكثر طرافة أن يجمع العداء للولايات المتحدة التيار الصدري الذي كان معارضاً، بل مقاتلاً للوجود العسكري الأميركي، مع التيارات الشيعية التي وصلت الى السلطة في أعقاب الدبابات الأميركية.
يبقى أن مشكلات التنافس الشخصي إياها تقف حائلاً دون سلاسة العودة الى حلف شيعي مكين يستعيد حلفاً أمكن مع الأكراد. ولا ينتظر أن يضحّي المالكي أو خصومة في الائتلافين الشيعيين لمصلحة القضية… المذهبية العليا.
من هنا نعود الى التوقعات الأصلية التي سبقت الانتخابات، والتي سبقت أيضاً التقدم المفاجئ لعلاوي على المالكي.
لقد قيل قبل أشهر طويلة من الانتخابات أنه أمامنا أشهر طويلة من المساومات قبل تشكيل الحكومة العراقية الجديدة. والمساومات المقصودة لم تكن بالطبع حول بنود البرنامج السياسي التي يفترض ان تتولاه الحكومة الجديدة. فالبند الرئيسي كان ويبقى اسم رئيس الحكومة المقبل.
أما متى تعود المساومات الى القضايا الحقيقية، قضية هوية الدولة وحدود توزيع صلاحياتها بين المركز والاطراف ومستقبل الفيديرالية، وموقع الأكراد في الدولة الجديدة فإنها ولا شك ستنتظر تعب المرشحين، كل المرشحين من احتمال الوصول الى موقع رئاسة الحكومة.
ان خريطة نتائج الانتخابات توحي بأن أشهر المساومات ستؤدي الى استبعاد المرشحين الاساسيين لرئاسة الحكومة ربما لمصلحة اسماء "مغمورة" تعبّر عن عدم قدرة أي من الأطراف الأساسية على الحسم.
حكومة الائتلاف الوطني التي ينتظر أن تعقب عدم الحسم هذا ستشهد بعد ماراتون تسمية رئيس الحكومة ماراتوناً آخر للاتفاق على البرنامج الذي يصعب أن يعبر عن أكثر من تجميد الوضع الراهن في انتظار ان يكون الناخب العراقي، اشد حسماً في المرّة المقبلة.
"النهار"




















