تضر كثيرا بدور مصر ومصالحها الإقليمية تلك النظرة السائدة لها اليوم بين قطاعات عديدة في العالم العربي كقوة معطَّلة فقدت نفوذها التقليدي ولم تعد قادرة على التأثير في مجريات الأمور من حولها. منتجو هذه النظرة ومروجوها، سواء كانوا دولاً كإيران وسوريا وقطر او حركات ك"حزب الله" و"حماس" تعارض الوجهة الإستراتيجية للدور المصري وتتضرر منه وتوظف من ثم أدواتها السياسية والإعلامية للانتقاص منه، يستندون على شواهد مختلفة أبرزها فشل مصر المستمر في إنجاز ملف المصالحة الفلسطينية ومشاركتها في الحصار المفروض على غزة، وتراجع دورها كوسيط إقليمي في مفاوضات السلام بين العرب وإسرائيل مع تعثر مسارات التفاوض ودخول دول أخرى على الخط كتركيا، ومحدودية تأثير مصر على تطورات الأوضاع في الساحتين السودانية واليمنية على ارتباطهما المباشر بالأمن القومي المصري.
ومع أن القراءة الموضوعية للشواهد هذه تدلل على شيء من النجاح المصري في التعامل معها، وفي ظل ظروف إقليمية ودولية صعبة، إلا أن العنصر الفصل هنا هو أن النظرة السلبية الى مصر والمنتقصة من دورها شاعت في الآونة الأخيرة واكتسبت أرضية واسعة في الرأي العام العربي على نحو أضحى يحتم على صناع ومنفذي السياسة المصرية الشروع الجاد في مجابهتها. فالدولة الراغبة في ممارسة النفوذ خارج حدودها تحتاج إلى قابلية وقبول محيطها الإقليمي لممارسة النفوذ هذا ومثل ذلك لا يتأتى سوى بذيوع الاقتناع بقوتها وقدراتها والتسليم برجاحة الوجهة الإستراتيجية لدورها ونتائجه الإيجابية.
وأحسب أن مصر عجزت خلال الفترة الماضية عن صوغ خطاب رسمي متجه لمحيطها الإقليمي يحدد أولويات سياستها بوضوح ويدافع عن حصادها. السلام في الشرق الأوسط، واحترام سيادة الدول الوطنية، والتعاون الاقتصادي والتجاري مع العرب، والعلاقة الإيجابية مع الولايات المتحدة والغرب، وتأمين الحدود المصرية واحتواء تمدد النفوذ الإيراني، تشكل معا الأولويات الأساسية لمصر والتي لا تعدم المؤيدين إن بين الحكومات العربية أو في الرأي العام. إلا أن مصر الرسمية أخفقت مرارا، خاصة في لحظات التأزم والتوتر في الشرق الأوسط، في الالتزام العلني بها والدفاع عنها إزاء انتقادات البعض وتعالي أصداء التشكيك في السياسة المصرية في الإعلام العربي.
المؤكد أيضا أن مصر لم تنجح في التعامل بصدقية وذكاء مع تعثر السلام في الشرق الأوسط والتوقف العملي لمسارات التفاوض بين العرب وإسرائيل في الآونة الأخيرة. فعندما تفرغ حكومة اليمين الإسرائيلية بصورة شبه يومية عملية السلام من مضمونها وتستمر في ممارساتها الاستيطانية وتعنتها، يصبح من غير المقنع أن يقتصر الخطاب الرسمي المصري على تكرار الالتزام بالسلام كخيار إستراتيجي للعرب متبوعا بشيء من النقد المحدود لإسرائيل (هو للعتاب أقرب). ولم يكن ليضر مصر، ودون أن تقع في فخ تبني مقولات إيديولوجية فارغة المضمون أو تنضم إلى منتجي خطابات التهديد والوعيد لإسرائيل واليهود والصهاينة الصادرة عن عواصم إقليمية مختلفة، أن تسجل بلغة قوية ومفردات واضحة رفضها لممارسات إسرائيل وتبحث في الخيارات المتاحة للتعامل الفعال مع تعنت حكومة نتنياهو فرديا وجماعيا بالتنسيق مع العرب القريبين منها ومع القوى الغربية التي بات عدم رضائها عن الصديق الإسرائيلي جليا. وإن كانت مصر الرسمية ترفض سحب مبادرة السلام العربية أو تجميدها، وكلا الأمرين يتداول اليوم على نطاق واسع في الإعلام العربي ويحظى بتفضيل شعبي واسع بعد ممارسات إسرائيل الأخيرة في القدس، وترى أنهما لن يعودا على الفلسطينيين بالكثير من النفع، يصبح لازما عليها ان تسوّق من الحجج والمسوغات ما قد يقنع على الأقل بعض العرب برجاحة موقفها.
كذلك لم يعد مقبولاً أن تصمت مصر عن المأساة الإنسانية في غزة المحاصرة، في حين تتضامن مع سكانها قطاعات واسعة في العالم العربي والخارجي. مازلت على رأيي في أن مرتكزات الموقف المصري في ما خص إدارة المعابر مع غزة وتأمين الحدود المصرية والعمل على إنجاز ملف المصالحة الفلسطينية صحيحة وتستحق الدفاع عنها، إلا أن تجاهل مأساة غزة ومعاناة سكانها وغياب التفنيد المقنع للاتهام الموجه لها بالاشتراك العملي في الحصار يضر كثيرا بصورة مصر في محيطها الإقليمي ويقلل من هيبتها. لا يصح أن يستمر صمت المسؤولين المصريين والإعلام الرسمي عمّا يحدث في غزة المجاورة، بينما تتوالى زيارات المسؤولين الدوليين وبيانات التضامن العالمي.
أخيرا، لا شك في أن أزمات مصر الداخلية، خاصة جمود حياتها السياسية وغياب الإصلاح الحقيقي والخوف من فراغ مفاجئ في السلطة الرئاسية، تساهم في انتشار النظرة السلبية لها كقوة معطَّلة بين العرب. فإدارة أوضاع السياسة والاقتصاد والمجتمع في مصر لا تقدم اليوم للمحيط الإقليمي نموذجا واضح المعالم يمكن أن يتفاعل معه إن بالقبول أو الرفض. وأحسب أن استمرار غياب مثل هذا النموذج، خاصة لأن العرب اعتادوا حضور النموذج المصري، يشكل أحد أكبر معوقات دور مصر الإقليمي وأحد الأسباب المباشرة لصعود دول أخرى تدعي امتلاك نموذج ما في سياساتها الداخلية والخارجية كإيران وتركيا.
(باحث في مركز كارنيغي للسلام)
"النهار"




















