مراجعة: عفيف عثمان
بعد كتابه "نهاية العمل" يعود المفكر الأميركي، رئيس مؤسسة الاتجاهات الاقتصادية في واشنطن، ليصف لنا عالم الرأسمالية في طورها الراهن والتي يسميها بالمفرطة، ويرسم ملامح الاقتصاد الناتج من الاستخدام المكثف للتقنيات الحديثة في المعلومات والإتصالات وما تحمله من ثقافة جديدة.
ويوصف هذا العصر بعصر الوصول، حيث أخذت الشبكات دور السوق وباتت الخدمة أهم من الملكية وتحول البائعون الى مؤدي خدمات والشارين الى مستخدمين. لقد حلت مقولة الوصول مكان المُلكيَة، وترافق هذا التغير مع تسليع العلاقات الإنسانية وخصخصة المجال الثقافي. ومفهوم الشبكات في طريقه لأن يتحول دينامية مجتمعاتنا كما فعل سابقاً مفهوما الملكية والسوق في فجر الحداثة. فأن تكون مشتركاً ومنتسباً وزبوناً بات يُعادل أن تكون مالكاً، ويرتبط موقعنا الإجتماعي بهذا الأمر.
وفي حين قام الإقتصاد الصناعي على مراكمة الرأسمال المادي، فإن الإقتصاد الجديد يتأسس على أشكال من القدرة غير المادية: حزم من المعلومات والمعارف.
يعالج القسم الأول من الكتاب "الحد التالي للرأسمالية"، وفي القلب منها فكرة الوصول الى الممتلكات المادية والفكرية. وفي حين تتجه المُلكيّة لتصبح شيئاً من الماضي، علينا اعتياد تعابير المجهّزين والمستخدمين بدلاً من البائعين والمشترين. وهذا النمط من العلاقات المستقبلية المتوقعة سينعكس حتماً في المؤسسات السياسية وفي طريقة الحكم وحتى يمكن أن نكون أمام نوع مختلف جداً من "الكائن البشري". فبدلاً من أخلاقيات العمل سيجري الإهتمام بأخلاقيات اللعب، واذ جعل العصر الصناعي من العمل سلعة ، فإن عصر الوصول حوّل اللعب سلعة. وأمام الزحف التجاري "المتحكم في الحياة الإنسانية" يخشى ريفكين على الحضارة، بسبب تقلص الدور الحكومي والثقافي، وبسبب من تصادم الثقافة والتجارة في عصر الوصول.
في عالم الشبكات نجد أنفسنا أمام انشطار بين من يرتبطون بالفضاء السيبيرني بعيداً من الجغرافيا الأرضية ومتطلباتها وبين من هم خارجه. فالوصول( أو النفاذ) في طريقه لأن يتحول "المفهوم الأوحد الأكثر قوة في العصر القادم". ومن عواقب ذلك تقلص الإقتصاد المادي (بالمعنى الحرفي للكلمة)، وآية ذلك تقلص مساحة العقار والإستغناء عن التخزين لمصلحة "المخزون في وقته". والتعاملات الإلكترونية المالية بدورها ألغت مادية النقود وحتى فكرة الرأسمال. نحن إذاً أمام نمط غير مسبوق من الرأسمالية يتحول كل شيء فيه الى "خدمة"، ونعبر من إقتصاد إنتاج- الخدمات الى إقتصاد أداء الخدمات وتوليد- الخبرة.
يُقارب القسم الثاني من الكتاب مسألة "تطويق المناطق الثقافية العامة"، فيُعلن ريفكين دخولنا في التجارة الثقافية. والمجالات الناجحة منها ستستند على تسليع جملة من التجارب الإنسانية. وتنعقد اليوم صلة وثيقة بين الثقافة والإتصال، فكما يقول أدموند ليش(E. leach) "الثقافة تتصل". وتشمل المجالات التجارية لعصر الوصول: السينما والراديو والتلفزيون وصناعة التسجيلات والسياحة العالمية ومراكز الترفيه الخاصة ومدن الألعاب الرياضية والأزياء وأساليب الطبخ والألعاب الرياضية الإحترافية والمقامرة.
وفي ظل الرأسمالية الثقافية طُرحت الفنون، التي كانت المُعبّر الأول للقيَم التشاركية في المجتمع، في الأسواق لتغدو رهينة لشركات الإعلان واستشاريّي التسويق. والجديد الذي يمكن أن يبيعوه هو "التجربة المعاشة" أو "طريقة حياة"، وكما كتب نورمان دينزن "التجربة المعاشة… قد أصبحت السلعة الأخيرة في تداول رأس المال"، وأكثر ما يبرز ذلك السياحة، مثابة تجربة ثقافية حُولت الى سلعة. فالسفر بغرض الترفيه الآن يشكل ثالث بند من حيث الكلفة في الميزانية العائلية بعد الطعام والسكن. ويعمل أكثر من 230 شخصا، أي 15 في المئة من مجمل القوة العاملة في العالم، في مهن ولّدتها صناعة السفر والسياحة الدولية.
والضحية الأخرى للرأسمالية الثقافية هي الساحة العامة (الحيّز العام) التي كانت مجالاً مفتوحاً يلتقي فيه الناس، حيث انتقلت فاعليتها الى مجمعات التسوق المغلقة (المول) كمراكز وصول الى تجارب العيش من كل نوع، يقضون فيها جزءا كبيرا من حياتهم الإجتماعية.
وثمة قطاع يعرف نمواً متسارعاً هو التسلية (او الترفيه)، يمثل "القوة المحركة للتكنولوجيا الجديدة كما كان الدفاع سابقاً". فعلى سبيل المثل أزاحت التسلية في جنوب كاليفورنيا صناعة الطيران والفضاء كأول مولد للدخل، وهذا في نظر ريفكين، مؤشر على التحول في الأولويات الإقتصادية من صنع الأشياء الى صنع التجارب. وينفق الأميركيون اليوم مبالغ ضخمة على الترفيه، أكثر مما ينفقون على السيارات والرعاية الصحية والملابس والسكن والأدوات المنزلية. ولم يعد المصنع أساس الإقتصاد بل الإنتاج الثقافي، حتى غدا العالم أشبه بمسرح ضخم، حيث السمة الرئيسة فيه الأداء. وعلى مستوى اللغة نجد رواج مفردات "المبدع" و"اللاعبين أو المؤدين" بدلاً من لفظ عمال. ويلاحظ كيم كامبل، رئيس وزراء كندا الأسبق، أن الإنتاج الثقافي كان عجلة الأمركة للعالم برمته "فمظاهر أميركا تتخلل القرية العالمية بشدة".
إن سيطرة الفضاء السيبيري تجعلنا نعيش في بيئات مصطنعة تتحول فيها "الحياة ذاتها الى سلعة"، ولكي ينتظم عصر الوصول، لا بد من المرور عبر بوابات يرقبها حراس( الشركات = التحكم) ودفع "الإشتراك".
يدعو ريفكين الى "أيكولوجيا للثقافة والرأسمالية" ويرى الى ضرورة إعادة تعريف إنسانيتنا ومقاربة مقولة الحقوق ولا سيّما "حق عدم الإقصاء" والحفاظ على التنوع الثقافي(المشابه للتنوع البيولوجي) في الموسيقى والمطبخ. كما على التربية تولي مهمة جديدة هي "التربية المدنية" التي تعيد ربط الطالب بالحياة الإجتماعية من خلال الأنشطة والتفاعل مع البيئة. وأخيراً تسييس الثقافة المحلية وعدم الإكتفاء بثقافة اللهو، ما يساهم في تعزيز دور الدولة في المجتمع. ويختم ريفكين في ما يشبه التحذير، بأن تأمين الوصول المستمر الى ثقافة محلية متنوعة وسليمة، يماثل في أهميته تأمين "الوصول" الى اقتصاد الشبكات العالمية. لذا، فإن القوى التجارية ما لم يتم ترويضها يمكن أن تلتهم العالم الثقافي وتحوله الى شظايا سلعية.
[الكتاب: عصر الوصول، الثقافة الجديدة للرأسمالية المفرطة
[الكاتب: جيريمي ريفكين
[ترجمة: صباح صديق الدملوجي
[الناشر: المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2009
"المستقبل"



















