كيف تقرأ تركيا نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي جرى في 12 سبتمبر، متزامنا مع الذكرى الـ 30 للانقلاب العسكري الذي قاده رئيس الاركان التركي وقتئذ الجنرال كنعان افرين، وأطاح بحكومة منتخبة ديمقراطيا ترأسها المخضرم سليمان ديمريل من حزب العدالة، الحزب الديمقراطي الان.
لاشك ان القراءة التركية للحدث تختلف عن قراءات اخرى، فبينما ركز الاعلام العربي، على كون الحدث وجه ضربة للمؤسسة العسكرية، واسفر عن تهاوي قلاع الكمالية، وهزيمة العلمانيين، فان تركيا قرأت الامر على نحو اخر، مختلف تماما.
ومع انه صحيح تماما القول ان حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ العام 2002 يحمل رؤية ومشروعا، واستراتيجية لمكانة تركيا محليا واقليما ودوليا، الا انه ليس في وارد توجيه صفعة للجيش او القوى الكمالية والعلمانية، فهؤلاء من ضمن عناصر الصورة التي لايكتمل المشهد التركي من دونهم.
تركيا قرأت الحدث من ناحية أهميته في تعزيز المسيرة الديمقراطية، والانسجام مع المعايير الاوروبية بما يمهد لانضمام انقرة الى النادي الاوروبي، كما قرأته من ناحية الانقسام الحاصل في البلاد، حيث مقاطعة اكثر من 14 مليون تركي وتصويت 7. 15 برفضه، مع موافقة 8. 21 مليون عليه. وقرأته ايضا من زاوية تأثيره على الحياة الحزبية والسياسية للبلاد التي تستعد لخوض انتخابات برلمانية ضارية في يونيو المقبل.
تحول ايجابي
يعتقد مدير مركز دراسات الشرق الاوسط في أنقرة د. سعدات لاجينر أن الدستور الجديد يشكل نقطة تحول، وبوابة إلى تغييرات إيجابية كبيرة في الحياة السياسية التركية. ويشير الى انه خلال حملات الاستفتاء، شهد الشعب التركي معركة بالكلمات بين قادة الاحزاب بدلاً من الاستماع الى تعليقات مفيدة في سياق الدستور الجديد، فخطب الزعماء كانت مليئة برسائل هجومية ضد بعضها البعض. وكانت تسعى بلا كلل للتغلب على بعضها البعض باستخدام عبارات شديدة اللهجة فيما يتعلق بالقضايا غير ذات الصلة بموضوع التعديلات الدستورية، حتى ان بعض الحملات طالت الحياة الخاصة للسياسيين.
ويؤكد لاجينر انه هناك خطأ شائعا وقع به معظم الشعب التركي، سواء الذين صوتوا بنعم ام الذين صوتوا بلا، واولئك الذين قاطعوا ايضا، فقد بدا وكنتيجة حتمية للحملات الحزبية قبل الاستفتاء، ان التعديلات الدستورية تعتبر دستور حزب العدالة والتنمية الحاكم، وعلى هذا الاساس، صوَّت المعنيون او قاطعوا، في حين ان الحقيقة غير ذلك، فهذه التعديلات تمثل نزوع الشعب التركي الى ديمقراطية حقيقية تعزز مبدأ الفصل بين السلطات، وتحمي الحياة السياسية من نزوات الانقلابيين.
ويمضي الدكتور لاجينر قائلا «عملية الاستفتاء الدستوري انتهت بنجاح بفتح مرحلة جديدة من الإصلاحات والديمقراطية في تركيا. ويؤمل أن يساعد اختيار الشعب التركي لتصبح البلاد أكثر ازدهارا وديمقراطية وسلمية في السنوات القادمة. ان تغيير تركيا وإجراء الاستفتاء يبدو أن واحدة من أكبر التغيرات في الحياة السياسية التركية»، معربا عن أمله في أن يسود تركيا مناخ سياسي أكثر مدنية ومجرد من السلاح مع طي صفحة دستور الانقلابيين العسكر.
هزيمة ثقيلة
من ناحيته، يقول الصحافي التركي جنيد اولسفر ان الناخبين الأتراك، الذين رفضوا التعديلات الدستورية الجديدة، وهو واحد منهم، عانوا هزيمة ثقيلة في الاستفتاء، حيث تفوق المؤيدون على المعارضين بنسبة كبيرة لاتخطؤها العين.
وينسجم اولسفر مع ملاحظة الدكتور لاجينر باعتقاده ان الاستفتاء لم يكن على جملة تعديلات دستورية، حيث ان 95 في المئة ممن أدلوا بأصواتهم لم يعلموا تفاصيل المواد ال26 التي سيجرى تعديلها، فالناس تقرر وفق وجهات نظرها السياسية.ويؤكد ان الحكومة والمعارضة حوَّلا العملية إلى «تصويت على الثقة في الحكومة» بالنهاية فازت الحكومة بنسبة 58 في المئة من الأصوات، على الرغم من أن إجمالي ناخبيها ليس كبيرا.
كما تحول الاستفتاء نفسه إلى تصويت بشأن الثقة في الرئيس الجديد لحزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كليجدار أوغلو، وبالتالي تم التصويت على نهجه أيضا. وعلى الرغم من محاولة «الشعب الجمهوري» تحويل نسبة 42 في المئة المعارضين لصالح رئيسهم، الان ان المعارضة فقدت عددا كبيرا من الأصوات منذ الانتخابات المحلية الأخيرة في مارس 2009. ومن هنا فإن من الصعب على كليجدار أوغلو ان يقدم نفسه كرئيس للوزراء.
القوميون أكبر الخاسرين
يجمع المراقبون في تركيا على ان حزب الحركة القومية أكبر الخاسرين في الاستفتاء، حيث بات واضحاً أن القوميين الأتراك لا يتفقون مع سياسات الحزب، وحيث اتهم زعيم الحزب دولت بهجلي بالتراخي قبل الاستفتاء الشعبي، والآن ستكون قيادته محل نقاش.
ومن هنا فقد دعت إدارة الحزب إلى مؤتمر استثنائي بعد هزيمته في الاستفتاء على حزمة التعديلات الدستورية.ويلاحظ ان حزب الحركة القومية استسلم للتأييد في الأقاليم التي فاز بها في الانتخابات الماضية، خاصة في محافظة عثمانية (جنوب) وهي مسقط رأس زعيمه، باهجلي، الا انه خسر حتى في هذه بواقع 5. 53%.
ومع ان قواعد الحزب كانت تفضل التصويت بنعم، وقد فعلت ذلك فعلا في كثير من المدن، الا ان قيادة الحزب، ومن منطلق معارضتها لحزب العدالة والنمية الحاكم، قررت مخالفة رأي قواعدها الشعبية، وعارضت بشدة إحداث أي تغيير في الدستور، ومن هنا فقد فشلت قيادة الحزب في الحصول على الدعم من القواعد الشعبية.
ويقول رامز أونجون، وهو رئيس هيئة المؤسسين التي تمثل إحدى منظمات الحزب، ان «إدارة الحزب خدعت نفسها، واختارت الاشتباك مع مطالب مؤيديها».واكد ان الديمقراطية أفضل بكثير من الترتيب لانقلابات عسكرية في البلاد، لافتا الى أن «هيئة المؤسسين صوتت لصالح حزمة التعديلات الدستورية، من غير أن ينطوي ذلك على دعم لحكومة حزب العدالة والتنمية».
وفقا لما ذكره أونجون، كان الاستفتاء مواجهة بين الجمهور والمحرضين على الانقلابات العسكرية التي جرت في الاعوام 1960 و 1971 و 1980، وباهجلي خرج كخاسر في الاستفتاء، وعليه تقديم استقالته فورا.
اما نائب طرابزون السابق، عن الحزب القومي،أورهان بيجاكجي أوغلو، فقد اعتبر ان القواعد الشعبية للحزب أعطت لقيادتها صفعة من خلال الاستفتاء، مشيراً إلى أنه يتوقع من باهجلي الاستقالة فورا، بعد أن ارتكب خطأ استراتيجيا.
فيما قال الجنرال المتقاعد نوري غورغور لقد وضع باهجلي نفسه في الموضع الخطأ، حينما حشر نفسه بين المعارضين لتغيير الدستور في الاستفتاء، مشيرا الى ان حزمة الإصلاح تسعى إلى فتح الطريق لانصاف العسكريين الذين طردوا من القوات المسلحة، حيث هناك العديد من النواب القوميين الذين كانوا سابقا أعضاء في الجيش، وخرجوا منه لسبب أو لآخر، وكان ينبغي أن يدعم حزمة التعديلات على الأقل من أجل إنصافهم.
والغريب اللافت للنظر ان الزعيم القومي الكبير ألب اصلان توركش، الذي يعد الاب الروحي للقوميين الاتراك، عانى الكثير من الحقبة العسكرية، حيث قضى تسعة أشهر في السجن بعد انقلاب عام 1980 وفقد 18 من أسنانه نتيجة للتعذيب على أيدي أعضاء المجلس العسكري.ويرى الكثير من المراقبين السياسيين وكتاب الأعمدة انه من غير المحتمل أن يجتاز الحزب القومي عتبة 10% اللازمة لدخول البرلمان في الانتخابات العامة المقبلة حتى في حال زيادة أصواته.
الاصفر يربح
يرمز اللون الاصفر الى الاكراد، حيث اختاروه ليكون الاساس في علمهم، ومن هنا كانوا اكبر الرابحين، في الاستفتاء الدستوري الاخير، بحسب رأي عدد من المحللين السياسيين وممثلي المنظمات المهنية، حيث نجح الأكراد في تمييز أنفسهم كمقاطعين، وأظهروا للجميع أنهم يمثلون حقيقة مختلفة في البلاد. ويؤكد هؤلاء ان المناخ اصبح مواتيا الان لايجاد حل سلمي ونهائي للمشكلة الكردية التي تعاني منها تركيا.
ويرى استاذ علم الاجتماع في جامعة دجلة، الدكتور مظهر باغلي، أن على كلا الطرفين، القوميون الأتراك والأكراد، اتخاذ خطوات نحو حل القضية الكردية، كما ان هذا جو مواتٍ جداً للحكومة لتتخذ خطوات إضافية وشجاعة في مبادرتها للتحول الديمقراطي التي بدأت أولى خطواتها في العام الماضي، معربا عن الأمل في التوصل الى حل للمسألة الكردية التي عانت تركيا منها عقوداً طويلة.
واكد باغلي ان نتائج الاستفتاء تشير إلى اننا في مفترق طرق مهم، وأضاف أن هناك حركة قوية لمنظمات المجتمع المدني في مدن جنوب شرق البلاد، مثل محافظة ديار بكر، التي تطالب بحل المسألة الكردية بالوسائل السلمية، ويمكن ان تكون نتائج الاستفتاء عاملا معززا لهم أيضا، خاصة بعد أن اتضح ان حزب الحركة القومية غير قادر على إقناع اتباعه بأن التعديلات الدستورية ستؤدي الى تقسيم البلاد.
من جانبه قال رئيس غرفة التجارة والصناعة في ديار بكرالدكتور غالب انصار اوغلو ان «انخفاض أصوات القوميين الاتراك ونجاح المقاطعة التي دعا اليها حزب السلام والديمقراطية الكردي، بشكل جزئي، تدل على أن الشعب يريد إيجاد حل سلمي للمسألة الكردية»، داعيا الحكومة الى «اتخاذ خطوات أكثر شجاعة الآن، قبل أن تدخل تركيا في جو الانتخابات التي ستأتي في غضون أشهر قليلة».
اسطنبول ـ كامل عبدالله




















