رام الله – من محمد هواش:
قد يحتاج الفلسطينيون الى تغيير نمط التفكير السياسي السائد لمواجهة اكثر التحديات خطورة على مستقبل الشعب الفلسطيني، خصوصاً مع انكشاف اسرائيل على مواصلة مشروع الاحتلال وعدم ظهور مايشير الى استعداد النخب الاسرائيلية الحاكمة للتخلي عن احتلالها للاراضي الفلسطينية على رغم ان الحديث يدور عن حل الدولتين الذي صار لازمة لكل خطاب سياسي اممي في شأن القضية الفلسطينية. ولم يعد لبعض المثقفين اليساريين الاسرائيليين صوت، الاّ اذا اقترب من قضايا الاجماع الصهيوني مثل زعيم كتلة “ميرتس” سابقاً يوسي بيلين، اذ تراجع عن فكرة الانسحاب الاسرائيلي من الضفة الغربية للتوصل الى حل دائم وتبنى فكرة حل الدولة ذات الحدود الموقتة بذريعة ان الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي غير ناضجين بما فيه الكفاية ليتوصلا الى حل نهائي .
مسؤولون فلسطينيون كثر باتوا يضيقون بعرض خيارات مجربة في مواجهة ما يسمونه استعصاء في المفاوضات، ويشيرون اكثر الى ان الرهان سياسياً على المجموعة الدولية يحتاج الى عمل كثير قبل عرض خيارات فلسطينية عليها، وهم يميلون الى تبني خيارات محلية فلسطينية وعرض خيار فلسطيني متدرج من اسفل الى اعلى لاقامة دولة فلسطينية. وهناك عمل كبير في هذا الاتجاه يقوم به رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض بدعم من الرئيس محمود عباس. وفياض لا يؤمن بالمفاوضات مع اسرائيل ولا بنياتها انهاء الاحتلال، وهو يقول في كل مناسبة بأنه من الخطأ على الاسرة الدولية ان توكل الى سلطات الاحتلال نفسها مهمة انهاء الاحتلال لاقامة دولة فلسطينية. وهو صرح شخصياً مراراً بانه التقى مسؤولين اسرائيليون كثراً ولم يسمع منهم او يلمس من احدهم ما يشير الى استعداد حقيقي للانسحاب الاسرائيلي من الاراضي المحتلة، الا اذا سمح لاسرائيل بالاحتفاظ بجملة مصالح حيوية لها في الضفة الغربية، انطلاقاً من مفاهيم تتعلق بالأمن تنأى كثيراً عن مفهوم الترتيبات الامنية المرافقة لتنفيذ اي اتفاق سلام مع الفلسطينيين فتصل الى تصورات مطابقة لابقاء السيطرة الاسرائيلية على الشعب الفلسطيني واراضيه ومياهه وحدوده واجوائه وعلاقاته في محيطه القريب والبعيد . ويقول مسؤول فلسطيني رفيع ان ما يهم اسرائيل اليوم ثلاثة عناصر هي :
1- استبعاد القدس واللاجئين من اي حل مع الفلسطينيين.
2- السيطرة على الحدود الشرقية والغربية للضفة الغربية بعمق 15 كيلومترا حيث توجد خزانات المياه الجوفية للضفة.
3- الامن الذي يفصل على مقياس كل اطماع اسرائيل من الضفة ( ارض، مستوطنات، مياه، حدود. اي ان الاسرائيليين يعرضون شركة مع الفلسطينيين في الضفة ولا يعرضون تسوية تاريخية مع الفلسطينيين على عموم ارض فلسطين التاريخية واقامة دولتين على هذه الارض، ولذلك هم متمسكون بالدولة الموقتة الحدود وفي مساحة لاتتجاوز 60 في المئة للفلسطينيين وان يكون الموقت 10 الى 15 عاماً في الحد الادنى وخمسين سنة في الحد الاقصى. الى ذلك فان الاسرائيليين يعرضون في المفاوضات مع واشنطن حلولاً من هذا النوع والخوف (فلسطينيا) ان يصير التصور الاسرائيلي للحل في نظر الاسرة الدولية هو الممكن الوحيد والواقعي.
هذه الافكار الاسرائيلية هي الجذر الحقيقي للانسداد شبه التام في المفاوضات، وليس شرط وقف الاستيطان الا تفصيلاً بسيطاً في اللعبة المعقدة.
اكثر من ذلك فان الفلسطينيين يخافون ان تتوصل اسرائيل الى تسوية مع الرئيس الاميركي باراك اوباما على حل موقت من هذا النوع، يقدم باعتباره خطة اميركية للحل من الصعب على الفلسطينيين مواجهتها من دون معادلة عربية واقليمية قوية داعمة لهم. ومعسكرا “الاعتدال” و”الممانعة” لا يملك اي منهما خطة هجومية حتى في الحدود الديبلوماسية، ولا يوجد في الافق ما يسمح بالاستناد الى اوهام من هذا النوع.
لهذه الأسباب يحتاج الفلسطينيون الى التفكير خارج الوعاء وخارج مألوف السياسة الرسمية تماماً مثلما فعلوا بعد انسحابهم من الاردن وانتقالهم الى لبنان عام 1971، وكما فعلوا بعد حرب تشرين عام 1973 عندما اعلنوا استعدادهم للتسوية مع اسرائيل عوض تدميرها والقضاء عليها، وكما فعلوا ايضا بعد خروجهم من لبنان وتحويل مركز ثقلهم في الكفاح داخل الاراضي الفلسطينية ثم تقدموا خطوة باعترافهم بالقرار الدولي 242 قبل ان يعلنوا ولايتهم القانونية على الاراضي الفلسطينية بعد قرار الاردن فك الارتباط مع الضفة الغربية.
يوجد اليوم انسداد في آفاق التسوية على رغم الحراك السياسي الواسع وعلى رغم تأييد الاسرة الدولية لتسوية على اساس حل الدولتين. ولكن لاتوجد ارادة قوية لفرض هذا الحل والاعتراف بخط 4 حزيران حدوداً بين الدولتين.
الفلسطينيون يفكرون في بدائل وخيارات، لكنها كلها لاتخرج عن التفكير من داخل وعاء السياسة الرسمية الفلسطينية. هناك اصوات داخل اللجنة المركزية لحركة “فتح” يجب الاستماع اليها، وهناك ايضاً سياسيون فلسطينيون يفكرون خارج الوعاء سراً، لأن السياسة الفلسطينية صارت اسيرة النمطية والنخب تستطيع التغيير، ولكن اتجاه التغيير ليس مضموناً ان يكون في صالح الفلسطينيين. مع ذلك لايخاف الفلسطينيون تجميد المفاوضات الى ولاية يمينية اسرائيلية تجلب افضل دعاية لمصلحة الحق الفلسطيني. وهم لذلك ليسوا في عجلة من أمرهم ويفكرون كثيراً. على قاعدة انه اذا لم يكن في مقدور المرء ان يكسب فعليه ان لا يقوم بأفعال من شأنها ان تخسّره.
“النهار”