ازاء التعقيدات المتزايدة والتي تتفاقم لكون الفئات المعنية تبدو كأنها تتعمد اجهاض كل حوار او احتمال تفاهم او تهدئة مرحلية على الأقل، اخذ القلق السائد يتحول تدريجيا خوفا من انشطار في الجسم السياسي، مما يهدد ما انجزه اتفاق الدوحة من تسوية يبدو ان مناعتها لم تكن مكتملة، وهذا يفسر سرعة العطب من محاولة جدية لادارة الازمة الاصعب والاشد حدة. يستتبع ذلك ان الاولوية يجب ان تتوجه نحو الاحاطة التي تشمل تداخل العناصر والقوى المحلية والعربية والاقليمية والدولية في ما هو حاصل من استفزازات وتحريض وتهديدات واتهامات عشوائية وغير مسؤولة. وبالتالي يؤدي هذا التشعب الى جعل الحقائق في مرتبة متدنية امام اولوية تضارب الرؤى والمصالح الدولية والاقليمية والتي لطالما جعلت لبنان – الطوائف امتداداً لنزاعاتها وخاضعاً لمصالحها. وهذا يفسر الحروب العبثية التي عاناها شعب لبنان، والآن يتهدد مرة اخرى ما انجز من وحدة وطنية تعود هشاشتها الى نظام طائفي يلغي المواطنة ويجعل لبنان مسرحاً لتصفية حسابات الغير بدون قدرة ذاتية على ردع تماديها.
يستتبع هذا الوصف لما هو عليه لبنان حالياً، ان المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قامت بموجب قرار لمجلس الامن وتحت الفصل السابع، وبالتالي ان قراراته تصبح نافذة، هذه المحكمة منذ مباشرتها التحقيق في ملف اغتيال الشهيد الرئيس رفيق الحريري تصرفت بخاصة في مرحلة قاضي التحقيق ديتليف ميليس كأنها كانت تستهدف اتهام مجموعة من اللبنانيين من دون التدقيق في صحة الأدلة مما ادى الى استبدال ميليس بمحققين آخرين، منهم من ابتعد عن اصدار احكام مسبقة، وصولا الى المحقق الحالي دانيال بلمار.
تميز الرد اللبناني على عملية الاغتيال بإجماعهم على ضرورة معرفة الحقيقة، على رغم قضية احتجاز الضباط الأربعة أربع سنوات، كما أن الإيحاء باحتمال صدور قرار ظني افسح في المجال امام تكهنات متضاربة مما ادى الى الحاجة للرد الحاسم خصوصاً ان الاجازة للمحققين الدخول الى عيادة نسائية من دون اخذ حساسية الموضوع في الاعتبار سرعان ما أدى الى تحريف موضوعية وتجرد التحقيق، وبالتالي استفحل الانشطار القائم. ونشير الى كلمة “حساسية” على رغم انها في الحالات العادية لا تشكّل عاملاً مضافاً، الا ان الاجواء السائدة حيث التربص المتبادل بين ما لا يزال يسمى 14 و8 آذار يجعل من مصطلح “حساسية” عاملاً في تسهيل الاستفزاز والاستفزاز المقابل، وسرعان ما تؤول هذه الاستفزازات المتبادلة الى تعبئة طوائفية، فتغيب الموضوعية ويسود فلتان يتناول حرمة ومسؤولية الكلمة.
تبقى ضرورة ان لا تكون الحقيقة مغيبة والا تبقى العدالة ممرحلة، أو بالاحرى معلقة، ولكن في الوقت نفسه الا يؤدي السعي للوصول الى العدالة مرشحاً للطعن في شرعيته، خصوصاً وان أي طعن بقانونية قرار مجلس الامن يبقى قائماً. لكن الأهم ان شرعية المحكمة معرضة للمساءلة في ضوء اداءاتها السابقة، وفي أعقاب التسييس الذي ساهم فيه المحافظون الجدد، ولكن تبرز هنا مفارقة الاعتراف بقانونية المحكمة وصلاحياتها الممنوحة لها بموجب بنود قرار مجلس الأمن، مع التشكيك بشرعية ممارساتها ومسار سلوكها حتى تستقيم المعادلة ويتم المرغوب في تأمين العدالة وكشف الحقيقة بالتلازم مع الأمن والاستقرار في لبنان.
هذا بدوره يعني ابقاء التعامل الاميركي والى حد أقل الفرنسي مع “حزب الله” كما هو، علماً انه طليعة المقاومة اللبنانية، وليس كما تصفه االاذاعات الاميركية ارهابياً. فهذا الاتهام والتصرف على اساسه من العوامل الرئيسة في تهديد شرعية، وقانونية، الحكومة اللبنانية القائمة. كما ان التغاضي عن العامل الاسرائيلي يجب أن يبقى عرضة للتحقيق والمساءلة في ضوء الكشف عن الجواسيس والعملاء. وعلى الجميع اللجوء الى الاملاءات والحزم في اعلان المواقف، مما يعمق الاستقطاب وبالتالي يعرقل مسيرة انجاز العدالة التي بدونها لن يتمكن لبنان أن يقفل هذا الملف وهذا السعي النبيل. فليس لبنان اليوم في حاجة الى تدخلات من أي من الاطراف الدولية أو الاقليمية، وعلى المحكمة ألا تستهويها استعادة ثرثرات ميليس، وان تسترجع الهيبة التي لا تزال منقوصة.
الأهم ان يبقى حكماء لبنان مستنفرين وعلى رأسهم الرئيس ميشال سليمان الذي يبدي هدوءاً وحكمة في التصرف، يستحق معهما ان يلقب بسليمان الحكيم!
“النهار”