كان الشاب الأوروبي يعدّ الصحون التي تعلو فوق بيوت الحي الغربي. قالت صديقته لنعدّ الذي لم يرفع صحنا فالأمر أسهل، لان عدد المواطنين هنا اقل بكثير من عدد اللاجئين. أدركت ان الصحن والستلايت هوية للأجنبي في هذا الغرب الذي نزداد فيه غربة واغترابا. لم اجعلهم يكملون العد، دخلت معهم في حديث المبرر والتبرير فأخبرتهما عن الصحن والفضائيات (انه جزء من الوطن، انه جذر التواصل مع الذكريات، انه أفيون غربتنا، انه المؤشر لغد الذين تركناهم في الوطن). كانا يستمعان بتحضر، مختصرين القول كعادتهم، قالت الفتاة الشقراء (وماذا عن الوطن الذي اخترتموه وعن المجتمع الجديد الذي تعيشونه). لم اشعر بأنهما من العنصريين الجدد الذين عادوا بقوة من خلف بوابات الأزمة الاقتصادية العالمية والنتائج المترتبة عن العمليات الإرهابية التي تُعلن عن نفسها باسم الله وجنده وجيوشه لأنها كانت تلبس تي شيرت فيه صورة كاريزما الثورات والثوار (ارنستو تشي غيفارا). حينما حدثتها عن رفض بعضهم لبعضنا وعن الجراد العنصري الذي يغزو حقولهم الخضراء ويهددنا، قالت “اتفق معك لكن أخبريني عن عدد اللواتي انشغلن بالطبخ يوم الانتخابات ولم يصوتن للأحزاب الاشتراكية والديمقراطية”. كان الحوار يقربنا وشعرت حينها أنّ المسافة تزداد والهوة تتعمق بين بعض من نجا من الموت السريع في وطنه ووقع في فخ بطيئة في غربته، مع الزمن الذي يعيشونه، المكان الذي يحويهم، البشر الذين يجاورونه .
التقيت جاري ومعه ابنته الصغيرة وهما ينتظران الحافلة. قلت له: خير عمو هل ابنتك مريضة لا سمح الله؟ أجابت الطفلة وكأنها مرشدة سياحية (لا خاله أنا ذاهبة مع والدي كي أترجم له). كانت الطفلة تشعر بفخر وحينما التقيتها بعد أشهر وهي في رحلة الترجمة للأب الذي تعثر وتأخر تعلمه اللغة شعرت انها تركت شعور الاعتزاز والفخر وانها بدأت تتعامل مع والدها وكأنه معوق. بل قرأت في عينيها وما بين كلمات حديثها انها تتعامل معه كجزء من تراث وفلكلور بل قطعة أثرية غارقة في عبق التاريخ الذي لا تعرف عنه شيئا. حدثتها عن والدها الذي كان يعلو صوته في الوطن وعن نضاله وعن فكره الذي نظم الكادحين وقصائده في العشق والمعشوقات. حاولت أن أعيد للأب مركزه الذي خسره بفعل اللغة ودوره كنموذج ومثال ، كانت الطفلة تنظر لأبيها وكأنه أسد هرم في غابة أوروبية غير قادر على الزئير لأنه لا يمتلك اللغة. كانت المسافة تتسع بينهما، له ألف مبرر لا يحتاج أن يعددها لكم لان حدود العمر في تعلم اللغة لإنسان يحمل بقايا جسد وظلال ذاكرة في غربة قاتلة يخفف عنه تهمة التقصير بتعلم لغة، ولكن ماذا عن اللواتي هن في عمر الزهور؟
صورة المرأة الكردية في المهجر ومن خلال البرلمانيات وآخرهن فتاتان كرديتان نجحتا لا بالدخول في البرلمان السويدي فحسب بل وفي البرلمان الأوروبي هي صورة جميلة تمثل نجاحا لهن ولشعبهن ولمجتمعهن الجديد، على خلاف المتألقات في مجالات عديدة في المهجر هناك فتيات ينطبق عليهن ما قاله احد المفكرين من أن العبد الذي يرضى ويسكت عن عبوديته يستحق أن يعامل معاملة العبيد. بعضهن بعمر الربيع، ينتظرها الزوج الذي ابعد عنها رحلة المهرب ومخاطر الغرق في عبارة يونانية عابرة للحدود. تحمل حقيبتها وتنزل في المطار الأوروبي، وفي الليلة الأولى تطلب تكملة المسلسل التركي الذي تابعته في مدينتها المنسية والمهمشة. تستبدل أدوات ماكياجها بماركات أصلية بعد أن كانت تستخدم التقليدي منها في بلدان النمور الخمسة. تلبس تي شيرتا لا تفهم معنى العبارة المكتوبة عليها. تسال زوجها بعد سنوات عن عدد الأحزاب ولمن تصوت ناسية أو جاهلة بأنه لا يحق لها التصويت فهي لم تجتز بعد فحص اللغة من أجل الجنسية. كما تسأل جارتها عن أفضل طريقة للتهرب من العمل والبقاء عالة على المجتمع بالاستجداء من دائرة الضمان الاجتماعي، تتقن فن التمثيل حينما تلتقي الطبيب كي يكتب لها تقريرا عن وضعها النفسي، وحينما تجلس أمام الستلايت مترهلة تفوح منها رائحة المطبخ وطبقات الماكياج الذي يعلو فوق بشرتها. تتكلم عن أمور الدين وعن المثل العليا وعن بلاد الكفر والكفار الذين يأكلون الخنزير. وفي الصباح حينما يخطب عنصري أوروبي ضد الأجانب ترد برلمانية أو عاملة أو مهندسة من المهاجرات ويتحدثن عن الذي قدمته الأحزاب العنصرية لأوروبا وعبر تاريخها لشعوبها وشعوب العالم وعن الذي قدمته الأجانب لمجتمعاتهم الجديدة من إضافات جديدة ومزجا قزحيا في ثقافتهم. أما هي فلا تفهم من حديث الطرفين شيئاً لأنها لا تفهم في اللغة غير معدود الكلمات التي تتهرب من خلالها من المجتمع الذي احتضنها وقبلها من ذاتها التي فقدتها في وطن رفضها حينا ووطن ترفضه من خلال صمتها وعبوديتها الاختيارية . أفلم يئن الأوان بعد لهدم الجدار كما هدم جدار برلين، والاكتفاء بغربة واحدة بدلا من اثنتين؟
“المستقبل”