دعوة «حزب الله»، قبل أيام، الى مقاطعة المحققين الدوليين في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري تعتبر تتويجاً لموقف الحزب من المحكمة الدولية. فهو شكّك فيها منذ انشائها وتحفظ عن اقرارها في مجلس الوزراء وسحب وزراءه من الحكومة احتجاجاً على اقرارها، ما تسبب بأزمة سياسية وامنية، امكنت محاصرتها في اتفاق الدوحة وانتخاب رئيس للجمهورية.
ورغم ان مؤسسات الدولة، خصوصا رئاسة الجمهورية ومجلس الووزراء، لم تتمكن من اداء دورها كاملاً، بفعل تركيبة الحكومة والازمات المتواصلة بسبب المحكمة الدولية اساساً، بقي الوضع اللبناني محكوماً بسقف من التفاهمات، من عناوينها الاساسية الاستمرار في طاولة الحوار الوطني والنص في البيان الوزاري على حق المقاومة (أي ابقاء السلاح في يدي «حزب الله») وتأييد المحكمة الدولية.
الانعقاد المتقطع لطاولة الحوار والكلام الرسمي عن معادلة الجيش والشعب والمقاومة وعن تأييد القرارارت الدولية المتعلقة بلبنان، ومنها المحكمة الدولية، كل ذلك أوجد حداً ادنى من الاستقرار الامني الداخلي على الاقل. فكان لا يزال يؤمل من طاولة الحوار التي تناقش استراتيجية الدفاع الوطني ان تجد صيغة ما لسلاح «حزب الله» في المنظومة الدفاعية. ليصبح هذا السلاح، في الخطاب الرسمي على الاقل، مسألة يجري العمل على حلها داخليا ومن دون تدخل خارجي. ومعادلة الجيش والمقاومة تحمي هذا السلاح من استهداف خارجي، في مسعى الى طمأنة الحزب الى سلاحه. على ان يترافق كل ذلك مع الاجماع، على طاولة الحوار وفي البيان الوزاري على المحكمة الدولية.
في هذا المناخ، تعاون «حزب الله» مع المحققين الدوليين، رغم كل تحفظاته عن المحكمة ووظيفتها وكيفية تشكيلها وآلية عملها. ولا يمكن فصل هذا التعاون عن المناخ العام في البلد، بعد اتفاق الدوحة. اذ انه عكس اعترافاً من «حزب الله»، المشارك في الحوار الوطني واتفاق الدوحة والحكومة، بأنه جزء من اللعبة السياسية الداخلية، وإن كان الطرف الاقوى فيها. وبقي الحزب كذلك، حتى عندما بات يعلن ان المحكمة مسيّسة وتخدم اغراضاً اسرائيلية وصولاً الى الطلب منها الى توجيه تحقيقها في اتجاه اسرائيل، استناداً الى معطيات وأدلة ميدانية وسياسية. فهو ظل يعتبر ان المعطيات التي في حوزته يمكن ان تصل الى محققي المحكمة، عبر القضاء اللبناني، من اجل الوصول الى الحقيقة.
بكلام آخر، بقي «حزب الله» في دائرة الاجماع الداخلي على العناوين الاساسية، وكشريك سياسي لآخرين في اطار احترام الالتزامات الدولية للدولة اللبنانية. ورغم ما اعترى هذه الشراكة من افتعال ملفات خلافية ومبادرات آحادية، تمسك الحزب بأن يعطي لنفسه هذه الصورة، وحرص على عدم القطع مع الدولة او مع الشركاء الآخرين.
واليوم، لا يشكل اعلان الحزب على لسان أمينه العام السيد حسن نصرالله مقاطعة المحكمة الدولية موقفاً من المحكمة في ذاتها فحسب، خصوصاً ان هذا الموقف هو نفسه منذ تشكيلها. لكن مطالبته الدولة والمسؤولين بمقاطعة مماثلة يجعله يخرق اجماع الحد الادنى، في كل ملفاته، خصوصا طاولة الحوار ومعادلة الجيش (الدولة) والشعب والمقاومة. وهذا هو المغزى الاساسي لدعوة لبنان الى مقاطعة المحكمة الدولية.
فالقضية هنا لا تتعلق بالتحقيق الدولي باغتيال الحريري وكيفية اجرائه، وانما تتعلق بالموقع الجديد الذي اختاره «حزب الله» لنفسه في الوضع اللبناني، استنادا الى تقديرات اقليمية وربما داخلية. فهو وضع بات سياسياً، خارج التوافق الوزاري والاجماع الداخلي، بما يهدد الحوار الوطني الضامن العملي للاستقرار الامني. ودستورياً خارج الدولة، بما يهدد صيغتها الداخلية والتزامتها الدولية بموجب ميثاق الامم المتحدة، وتالياً وجودها كعضو في هذه المؤسسة الدولية.
“الحياة”