يكاد يكون التقدير الشائع أن الحتميّ ليس وقوع المواجهة بين الرئيس سعد الحريري وسوريا وحزب الله، بل توقيت وقوعها في لحظة إقليمية تجنّب الحزب ودمشق وطهران ارتدادات محتملة على قلب التوازنات الداخلية رأساً على عقب، وانتزاع لبنان بالقوة من التزامه المحكمة الدولية
لا قمّة الرياض بين الملك السعودي عبد الله والرئيس السوري بشّار الأسد في 17 تشرين الأول شهدت انفراجاً في مقاربتهما الملف العراقي، ولا اجتماع نجل الملك ومستشاره الأمير عبد العزيز بالأسد قبل يومين شهد انفراجاً مماثلاً. وهكذا أوصدت الأبواب في وجه انفراج قريب لمأزق الملف اللبناني، الواقف على أبواب مواجهة وشيكة بين رئيس الحكومة سعد الحريري وحلفائه، وحزب الله وحلفائه على المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
تبعاً لذلك، يشوّش الغموض مسار جلسة مجلس الوزراء غداً الأربعاء للبحث في موضوع شهود الزور، وقد أضحت ثانوية على أثر إعلان الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله، مساء الخميس 28 تشرين الأول، قطع التعاون مع المحكمة الدولية، واتهامه المتعاملين معها بالاعتداء على المقاومة.
على نحو كهذا تحوّل الملف اللبناني فرعاً في أصل، في أزمة تحاول دمشق والرياض التفاهم عليها في العراق، في نطاق السيطرة على النفوذ السنّي في هذا البلد.
رفض الملك في قمّة الرياض ترئيس نوري المالكي الحكومة العراقية الجديدة بذريعة علاقته بطهران، وخاطب الرئيس السوري: كان الاتفاق بيننا سابقاً على تأييد إياد علاوي. الآن لا حظوظ له، فلتكن فرصة في البحث عن مخرج برئيس آخر للحكومة سوى نوري المالكي وإياد علاوي هو عادل عبد المهدي، وبذلك تُبعد إيران عن التدخّل في الشأن الحكومي العراقي.
كان ردّ الأسد أن سوريا تقف على مسافة واحدة من الأفرقاء العراقيين جميعاً، وكانت تشجعهم على الانخراط في العملية الانتخابية كي لا يبقى أحد منهم خارج الدولة، لأن العراق في حاجة إلى الوحدة الداخلية، بالتزامن مع مخاوف تترتب على آثار الانسحاب العسكري الأميركي منه على الوضع الداخلي وتحصينه.
ثم أرفق الرئيس السوري هذا الموقف بتأكيده أنه لا يسعه اتخاذ أي خطوات بلا التفاهم مع إيران، ذات النفوذ الواسع في العراق، فضلاً عن التحالف الاستراتيجي بين سوريا والجمهورية الإسلامية، وأنه لا يريد إلحاق أي خلل بهذا التحالف.
وقال للملك إن أي سلطة عراقية جديدة يقتضي إتمامها بالاتفاق مع إيران.
أبلغ الرئيس السوري إلى الملك السعودي أن الاتفاق على ترئيس المالكي شارك فيه معظم الأفرقاء العراقيين: غالبية الشيعة، ونصف السنّة، وكل الأكراد.
إذا طيّر الحريري نصاب جلسة مجلس الوزراء، يكون قد أقرّ بفقدانه الغالبية الحكومية
انتهت قمّة المطار في الرياض بإخفاق الزعيمين السعودي والسوري في الاتفاق على تصوّر مشترك لمعالجة الأزمة الحكومية العراقية، ثم أتت زيارة نجل الملك للأسد بغية استدراك هذا الإخفاق، فلم يتفقا أيضاً، فانسحب الإخفاق على لبنان.
كانت دمشق قد تلقّت باستياء دعوة عبد الله الأفرقاء العراقيين إلى الاجتماع في الرياض في 16 تشرين الثاني، لتسوية مشكلتهم. فأخفق مرة أخرى في الحصول على تأييدهم جميعاً مبادرته هذه، لأسباب شتى نظرت إليها العاصمة السورية وفق ملاحظات منها:
1 ـــــ عدم التنسيق المسبق معها في الدعوة التي لم يطّلع الأسد على عزم الملك على توجيهها، عندما التقيا معاً في مطار الرياض، وبدت تجاوزاً لدور سوريا ونفوذها في هذا البلد.
2 ــــ وضع التسوية تحت مظلة الجامعة العربية بغية إخراج إيران من معادلة تكوين السلطة العراقية الجديدة، وإدخال مصر طرفاً جديداً فيها، من غير أن تكون معنية بتوازن القوى في هذا البلد، أو صاحبة نفوذ فيه.
في ظلّ تعثّر مزدوج فيهما، بات العراق ولبنان، تحت وطأة تجاذب صراع النفوذ عليهما، أمام مواجهة تتصل بدورها بتوزّع توازن القوى فيهما وفاعلية القوى الإقليمية النافذة. وشأن تشبّثها بإيران كشريك لها في العراق، يحتل حزب الله موقع الشريك الفعلي الآخر لها في لبنان في مسعى إسقاط المحكمة الدولية.
كانت قد ارتسمت، بالنسبة إلى سوريا أيضاً، معالم إقبال لبنان على أزمة قاسية ووشيكة، حتميّة الوقوع، غامضة التوقيت:
أولها، استمرار انقطاع الاتصالات بين الأسد والحريري منذ 3 تشرين الأول. ورغم مواقف سورية رسمية مرنة تختبئ وراء الإيجابية، وتنفي القطيعة مع رئيس الحكومة، إلا أن أحداً لم يدخل بعد على خطة الوساطة بين الرجلين، ولا يتصرّف أحدهما على أن الآخر حاجة له. رئيس الحكومة ألقى وراءه معاودة الحوار مع دمشق ورئيسها وانصرف إلى مشاغل سواها، وقرّر المضي في معركة التمسّك بالمحكمة الدولية مهما تكن وطأة الضغوط التي يواجهها منها، أو من حلفائها.
كان ذلك قراره أيضاً في آخر حوار أجراه مع حزب الله عبر المعاون السياسي لأمينه العام الحاج حسين الخليل في 19 تشرين الأول، فلم يتعدّ لقاؤهما الأول منذ أسابيع طابع المجاملة واستجابة الوساطة الإيرانية غير المباشرة التي حتّمته. لم يأتِ أحدهما للآخر بتنازل أو موقف جديد، وتشبّثا بوجهتي نظرهما المتناقضتين، سوى أن الحريري أبلغ إلى الخليل أن القرار الظني في اغتيال والده سيؤجّل صدوره إلى آذار المقبل.
كان رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط حمل هذا الموقف إلى نصر الله قبل يومين، في 17 تشرين الأول، عندما التقيا، نقلاً عن الحريري.
قصد نصر الله الحريري عندما تحدّث الخميس عن تبلّغه مضمون القرار الظني عام 2008
استنتج الحزب أن رئيس الحكومة يعرف، في أحسن الأحوال، اتجاهات مسار المحكمة الدولية قبل صدور القرار عن قرب، إن لم يكن في وسعه التدخّل فيه. وهي الإشارة التي لفت إليها نصر الله في حديثه التلفزيوني الخميس الماضي، عندما قال إنه تبلّغ عام 2008 بصدور قرار ظني يتهم أفراداً في حزب الله باغتيال الحريري الأب، من غير أن يسمّي الجهة التي أطلعته على ذلك.
وتبعاً للمطلعين على موقف نصر الله، فهو قصد رئيس الحكومة من غير أن يرغب في كشف اسمه، تفادياً لمزيد من الجدل حيال هذا الموضوع. كانت تلك المرة الأولى التي حدّثه الحريري ـــــ ولم يكن رئيساً للحكومة ـــــ في قرار ظني يتهم الحزب بقتل والده، ثم أثار الأمر نفسه معه في لقاء جمعهما بعد تقرير مجلة دير شبيغل الألمانية في 24 أيار 2009، أفصح نصر الله عن مداولات ذلك اللقاء في المؤتمر الصحافي الذي عقده في 22 تموز.
ثانيها، دخول دمشق طرفاً في هذه المواجهة بتكتيلها قوى 8 آذار في صف واحد، وبرفع هؤلاء، كرئيس تكتل التغيير والإصلاح الرئيس ميشال عون وجنبلاط ورئيس تيّار المردة النائب سليمان فرنجيه، وتيرة المواجهة، بإبدال تسجيل مآخذ على المحكمة الدولية برفضها تماماً، وتقويض الإجماع الوطني عليها والتشهير بالمسار الذي تشقّه.
ما أحال دمشق شريكاً في مواجهة كهذه تفضي حكماً إلى تعزيز نفوذها في لبنان، أن القرار الظني سيعبر بالاتهام الذي سيوجّهه إلى حزب الله، كي يطاول نظامها ضمناً عبر توجيه تهم مماثلة إلى ضباط سوريين بالمشاركة في اغتيال الرئيس الأسبق للحكومة.
ثالثها، تحوّل مجلس الوزراء ساحة سلمية لمواجهة ضارية على ملف شهود الزور. وتتعامل دمشق وقوى 8 آذار مع جلسة مجلس الوزراء غداً الأربعاء ـــــ رغم الغموض الذي يطبعها بسبب فشل جهود التفاهم حيال بندها الرئيسي ـــــ على أنهما رابحان كيفما قلبت الصفحة:
ـــــ إذا التأمت الجلسة وصوّت الوزراء، ترجّح قوى 8 آذار فرض إرادتها على الفريق الآخر بإحالة ملف شهود الزور على المجلس العدلي، بالأكثرية المطلقة المتوافرة في حوزتها.
ـــــ وإذا حال الحريري دون استمرار اكتمال النصاب القانوني للتصويت في الجلسة، ممّا يؤول إلى تعطيلها، تكون المعارضة قد كرّست غالبيتها داخل مجلس الوزراء، نظراً إلى اعتقادها بأن الحريري، بتطييره نصاب التصويت، يُظهر عدم سيطرته على مجلس وزراء يرأسه، ولا على نصاب أكثريته الوزارية المطلقة المؤلفة في معظمها من الغالبية النيابية التي يتزعّم أيضاً. ويُظهر كذلك اعترافه بانتقال الغالبية الوزارية من قوى 14 آذار إلى قوى 8 آذار. وهو بذلك يستعيد اللعبة نفسها التي أدارتها المعارضة مع سلفه الرئيس فؤاد السنيورة في ثانية حكوماته بعد اتفاق الدوحة عام 2008، عندما أعطيت الثلث + 1، فحالت دون التصويت وفرضت مشيئة الأقلية المعطّلة على الأكثرية المقرّرة.
والواقع أن رئيس الجمهورية ميشال سليمان سيكون أمام امتحان الاحتكام إلى التصويت، إذا بدا أن دمشق مصرّة عليه. إحراج كهذا نأى جنبلاط بنفسه عنه عندما تعهّد للقيادة السورية بالتصويت مع قوى 8 آذار إذا اتخذ قرار بذلك، إلا أنه طلب إمهاله بعض الوقت لمعالجة سياسية تفضي إلى نتائج مطابقة للتصويت، تجنّبه ـــــ ورئيس الجمهورية خصوصاً ـــــ كأس قلب الغالبية الحالية إلى أقلية، والأقلية إلى غالبية، إذ تبدو قوى 8 آذار متيقنة من امتلاكها أكثرية مطلقة في مجلس الوزراء، أكدها لها الانضمام المحتمل للوزراء الثلاثة للزعيم الدرزي إلى صفوفها، وانفراط عقد وزراء رئيس الجمهورية، ما لم يشجعهم الرئيس على هذا الخيار ربما.
الأخبار