تعيش الساحة السياسية الموريتانية سجالات قانونية دستورية بشأن الأهداف من وراء ملاحقة الرئيس السابق محمد ولد عبدالعزيز، وعدد من رموز نظامه لتورطهم في قضايا تتعلق بغسل الأموال والإثراء غير المشروع ضمن ما سمي بـ”قضية فساد العشرية”، في إشارة إلى الفترة، التي تولى فيها السلطة والممتدة من 2009 وحتى 2019.
وثمة احتمال بأن تأخذ القضية حيزا مهما من النقاشات وأبعادا سياسية أكبر مما يشاع لاسيما وأنها تعتبر سابقة في تاريخ البلد المعروف بالانقلابات العسكرية، ومع التغيرات الحاصلة على المشهد مع إتاحة الفرصة لتيار الإسلام السياسي للعودة إلى الساحة. لكنها أيضا ستكون فرصة لمتابعة آثار قانون مكافحة الفساد، الذي تم إقراره في عام 2016، أي خلال تولي ولد عبدالعزيز الحكم.
ووجه القضاء الموريتاني الخميس الماضي تهم فساد إلى ولد عبدالعزيز مع وضعه تحت مراقبة قضائية “مشدّدة”، إضافة إلى اتّخاذ الإجراءات نفسها بحق 13 من الشخصيات البارزة القريبة منه، من بينها أحد أصهاره ورئيسان سابقان للحكومة وعدد من الوزراء السابقين ورجال الأعمال.
وعلى إثر ذلك، أصدر المدير العام للأمن الوطني الفريق مسغارو ولد سيدي تعميما بمنع من وردت أسماؤهم في القضية، من السفر خارج العاصمة دون إذن، تنفيذا للقرار الصادر عن رئيس فريق التحقيق الخاص بمكافحة الفساد بمحكمة ولاية نواكشوط الغربية.
ويرى مراقبون أن القضية متجهة للمزيد من التصعيد بين تحصن ولد عبدالعزيز بالفصل الدستوري، الذي يحصن ممارساته أثناء الحكم وبين إصرار القضاء على ملاحقته في ظل دعم واضح يحظى به من قبل الرئيس محمد ولد الغزواني الذي كان الرئيس السابق وراء ترشيحه للرئاسة.
وليس ذلك فحسب، بل أيضا في ظل تصفية حسابات سياسية أول من يسعى إليها تيار الإسلام الإسلامي، وبالأخص جماعة الإخوان التي بدأت تسترجع أنفاسها بقوة في البلاد بعد أن بادرت السلطات الحالية بتوجيه إشارات داعمة لها، آخرها رفع الحظر والإغلاق عن جمعية المستقبل للدعوة والثقافة والتعليم المحسوبة التي يرأسها عضو ما يسمى “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” الشيخ محمد الحسن الددو، بعد قرار حلها من قبل نظام ولد عبدالعزيز في العام 2014.
فتح ولد الغزواني الباب أمام عودة الإخوان للمشهد وراء ملاحقة ولد عبدالعزيز المتحصن بالمادة 93 من الدستور
وكان ولد عبدالعزيز اتهم خلفه ولد الغزواني، بالتحالف مع الإخوان المسلمين للتنكيل به وتصفيته سياسيا ومحاكمته بتهم “واهية”. وقال إن “المحيط الجديد والداعمين الجدد للرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني ومنهم قيادات من الإخوان المسلمين، عمدوا إلى تفجير أزمة سياسية مصطنعة حول مفهوم لم يسبق أن سمع به الموريتانيون وهو ‘المرجعية’ وكان الهدف الواضح منها الإساءة إليّ، ومحاولة التضييق عليّ سياسيا”.
وأشار الرئيس السابق على نحو واضح إلى توغل شخصيات محسوبة على الإخوان، مثل ضيف ولد عبدالعزيز والمختار ولد محمد موسى وجميل منصور عمر الفتح ومحمد غلام الحاج وقياديين آخرين في صفوف الداعمين الجدد للرئيس، الذي فتح أبواب مكتبه واسعة لاستقبال شخصيات من هذا التيار الخطير، والمعارضة عموما.
وطيلة سنوات ظلت العلاقة بين الرجلين قوية ولم يكن أحد يتوقع أن يحدث شرخ بينهما، فقد شارك ولد الغزواني مع ولد عبدالعزيز في الإطاحة بالرئيس الأسبق سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله، عاشر رئيس لموريتانيا منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، ولكن منذ تولي الرئيس الحالي السلطة في أغسطس 2019 ظهرت رغبة الرئيس السابق بالاستمرار في ممارسة العمل السياسي، مما أدى إلى توتر علاقتهما على نحو غير مسبوق.
وقد شملت لائحة الاتهامات تبديد ممتلكات الدولة العقارية والنقدية، والحصول على مزايا مادية غير مستحقة من مجموعة عمومية، والتدخل في أعمال تجارية تنافي الصفة الوظيفية، وتلقي فوائد من عقود ومزايدات ومنح امتيازات غير مبررة في صفقات عمومية، واستغلال النفوذ وإساءة استغلال الوظيفة، والإثراء غير المشروع وإخفاء العائدات الإجرامية، وإعاقة سير العدالة وغسيل الأموال.
ومكنت التحقيقات المالية الموازية من اكتشاف وتجميد وحجز أموال وممتلكات منقولة وعقارية، جرى تحصيلها وجمعها بشكل غير مشروع من خلال عدة جرائم، ارتكبت إضرارا بالمجتمع، وذلك رغم محاولة بعض المشتبه بهم عرقلة سير العدالة وعدم التعاون مع المحققين.
وتمثلت تلك الأموال في شركات تنشط في مجالات مختلفة ومصانع وعقارات وأرصدة بنكية. ويتعلق الأمر هنا بما عثر عليه في موريتانيا حتى الآن.
وبحسب التقديرات الأولية، تجاوزت تلك الأموال المجمدة حتى الآن، أكثر من 41 مليار أوقية (قرابة 115 مليون دولار)، أكثر من 29 مليار أوقية منها للرئيس السابق وتسعة مليارات أوقية لصهره محمد ولد المصبوع وحوالي 2.7 مليار أوقية لمدير سابق لإحدى الشركات الحكومية.
ووصف منسق هيئة الدفاع عن الرئيس السابق المحامي محمد ولد أشدو التهم، التي وجهتها النيابة لموكله بأنها “تهم ودعاوى سياسية وكيدية بامتياز، حبكت وطبخت في مطابخ ودهاليز السياسة والمخابرات تحت لافتة ‘المرجعية”. وقال في بيان إن القضاء ورطه بهذه التهم “بغية تشويه سمعة الرئيس محمد ولد عبدالعزيز وصحبه وعهده الوطني التقدمي، ومنعه من ممارسة السياسة، وبغية تشويه سمعة القضاء أيضا، ولا أصل لها ولا فرع من القانون والوقائع”.
وسبق للهيئة أن أشارت إلى أن لديها كل الحجج والبراهين القانونية الصريحة بأن التهم الموجهة للرئيس السابق “كيدية وتآمرية” وأن لجنة التحقيق البرلمانية باطلة وتقريرها منحاز وإحالته للقضاء غير قانوني، ومن المستحيل متابعة المستهدفين في هذا الملف من طرف النيابة بقوة القانون ذلك أن “ولد عبدالعزيز يتمتع بحصانة مطلقة بقوة المادة 93 من الدستور”.
الحبيب الأسود – العرب