حملت زيارة الرئيس التونسي قيس سعيد إلى العاصمة طرابلس، والتي تعتبر الأولى لأعلى مسؤول في هرم السلطة منذ تسع سنوات، بعد يوم من تولي السلطة الانتقالية الليبية مهامها رسميا، في طياتها الكثير من الأبعاد السياسية والدولية. فإلى جانب كونها تعكس الجهود، التي بذلتها تونس كوسيط لحل الأزمة الليبية، إلا أنها تشكل دافعا قويا لتعزيز العلاقات الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية بين الجارين، وتمثل خطوة كبيرة نحو بناء عهد مشترك جديد لوضع قدم للخروج من دائرة الأزمات، التي انعكست على البلدين طيلة عشر سنوات.
تونس – شكلت زيارة الرئيس التونسي قيس سعيد إلى ليبيا حدثا بارزا من حيث التوقيت، وخطوة هامة في سياق العلاقات الثنائية بين البلدين التي ساهمت تراكمات التجاذبات المحكومة بأجندات إقليمية ودولية التي عرفتها ليبيا، في غياب شبه كلي لتونس جعلها تفقد دورها ومصالحها طيلة السنوات العشر الماضية.
وأثارت هذه الزيارة التي تواصلت لعدة ساعات فقط جملة من التساؤلات حول أبعادها ودلالاتها السياسية، خاصة في ظل حالة التخبط والارتباك، التي تُخيم على المشهد السياسي العام في تونس، نتيجة تواصل الصراع حول الصلاحيات بين الرئاسات الثلاث، والذي جعل البلاد تدخل في أزمة مُتعددة الأركان.
زيارة في توقيت مهم
من حيث التوقيت، جاءت هذه الزيارة التي تمت الأربعاء، والتي تُعتبر الأولى من نوعها لرئيس تونسي منذ العام 2012، بعد 24 ساعة من استلام رئيس الحكومة الليبية الجديدة عبدالحميد الدبيبة لمهامه رسميا من رئيس حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، خلال موكب رسمي نُظم الثلاثاء في العاصمة طرابلس.
وفتحت سرعة تنظيم هذه الزيارة، التي جعلت قيس سعيد أول رئيس عربي وأفريقي وأجنبي يزور ليبيا بعد تسلم السلطة التنفيذية الجديدة مهامها لإدارة المرحلة الانتقالية، التي تسبق الانتخابات العامة المزمعة في الرابع والعشرين من ديسمبر المقبل، أيضا الباب واسعا أمام التكهنات التي تتالت في سياق محاولات تفكيك الرسائل الكامنة وراءها.
واختلطت في هذه التكهنات الحسابات السياسية في الداخل التونسي قبل الليبي، لتُشكل جملة من الاعتبارات، التي لم تخل من محاولات خصوم الرئيس قيس سعيد تحويل وجهة زيارته نحو مربعات أخرى، ليست مُنفصلة عن ظروف الأزمة في البلاد وتعقيداتها، رغم توضيح الرئاسة التونسية لإطارها وأهدافها.
وقبل يوم واحد من هذه الرحلة، أعلنت الرئاسة التونسية أن زيارة الرئيس سعيد “تأتي في إطار مساندة تونس للمسار الديمقراطي في ليبيا، وربط جسور التواصل وترسيخ سنة التشاور والتنسيق بين قيادتي البلدين وهي بذلك تُمثل مناسبة لإرساء رؤى وتصورات جديدة تعزز مسار التعاون بين البلدين، وتؤسس لتضامن شامل يلبي التطلعات المشروعة للشعبين في الاستقرار والنماء”.
ومع ذلك، تواصل الجدل حول جدوى هذه الزيارة في هذا التوقيت، رغم الاحتفاء الكبير الذي حُظي به سعيد ساعة وصوله العاصمة الليبية طرابلس، والمباحثات التي وُصفت بـ”الناجحة” التي أجراها مع رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، ومع رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة.
وبحسب الرئاسة التونسية، فقد تم الاتفاق خلال هذا اللقاء على “إعطاء دفع جديد للنشاط التجاري، ووضع خطة عمل لتفعيل الجانب الاستثماري عبر تسهيل إجراءات العبور بين البلدين، وتيسير الإجراءات المالية بين البنك المركزي التونسي ومصرف ليبيا المركزي”.
كما تم أيضا “الاتفاق على تبادل الخبرات وتكثيف التعاون في مختلف المجالات الأخرى لمواجهة التحديات الكبيرة للبلدين، وذلك عبر الإسراع بعقد اللجان العليا المشتركة”، إلى جانب التطرق إلى جملة من الملفات الأخرى ذات الاهتمام المشترك، أبرزها الملف الأمني في علاقة بالتهديدات الإرهابية المُحدقة بالبلدين.
قواسم مشتركة
خلال مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي أكد الرئيس التونسي على مساندة تونس للمسار الديمقراطي في ليبيا، وعلى دعمها للحكومة الليبية الجديدة، برئاسة عبدالحميد الدبيبة، وعلى أن “أمن تونس هو من أمن ليبيا”.
وقال سعيد إنه “حين استقرت الأمور، لم أتردد في المجيء إلى ليبيا لأقاسمها فرحتها بهذه المرحلة الانتقالية… نحن وليبيا شعب واحد وتاريخنا حافل بمظاهر الوحدة، وحان الوقت لتجاوز كل الخلافات مع ليبيا”، مؤكدا أن العلاقة بين ليبيا وتونس مميزة، وعلى ضرورة العمل من أجل إحياء الاتفاقيات والعقود المُبرمة بين البلدين.
ولم يفوت الرئيس التونسي تواجده في ليبيا دون إثارة ملف قضية الصحافيين التونسيين سفيان الشورابي ونذير القطاري المفقودين في ليبيا منذ شهر سبتمبر من العام 2014، إلى جانب التطرق إلى اتحاد المغرب العربي، حيث شدد على ضرورة العمل من أجل “إعادة نشاط الاتحاد المغاربي إلى سابق عهده”.
وفتحت تصريحات الرئيس التونسي خلال المؤتمر الصحافي المُشترك مع رئيس المجلس الرئاسي الليبي، وخاصة منها تأكيده على أهمية إحياء باب التأويلات، التي ذهبت إلى اعتبار ذلك ردا على تصريحات سابقة لرئيس حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي، سعى فيها إلى محاولة نسف هذا الاتحاد المغاربي الذي يتألف من خمس دول.
ودعا الغنوشي في تلك التصريحات، التي بثتها إحدى الإذاعات المحلية التونسية في نهاية شهر فبراير الماضي، تونس والجزائر وليبيا إلى فتح الحدود في ما بينها، وتبني عملة واحدة ومستقبل واحد لشعوب البلدان الثلاثة، مستبعدا بذلك المغرب وموريتانيا، الأمر الذي أثار استياء وسخط الرباط ونواكشوط، ورفضا في تونس وليبيا والجزائر.
إحياء دور تونس
والدليل على ذلك، الرهان المتزايد الذي توليه الرئاسة التونسية على أهمية العمل من أجل تهدئة الأوضاع في ليبيا لتجنب تداعيات أي تدهور أمني وعسكري فيها على أمن واستقرار تونس، وكذلك أيضا لتفادي التهديد الإرهابي، وضمان سوق جديدة تُمكنها من إنعاش اقتصادها الذي تضرر كثيرا جراء الاقتتال الليبي-الليبي.
وتعكس هذا الرهان الرسائل المحمولة في مجمل التحركات التونسية السياسية والدبلوماسية، التي تؤكد أن تونس باتت مُضطرة لإعادة تصويب بوصلة مواقفها إزاء تطورات الملف الليبي، لاستعادة دورها الفاعل الذي يمكنها من إعادة التموقع في السوق الليبية، التي خسرتها طيلة السنوات العشر الماضية.
وعمقت تلك الخسارة أزمة الاقتصاد التونسي، حيث تُشير تقارير البنك الدولي إلى أن تونس تخسر نحو 800 مليون دولار سنويا بين استثمارات وصادرات، بسبب استمرار الأزمة في ليبيا، التي كانت تُعتبر أهم شريك اقتصادي وتجاري لتونس بعد الاتحاد الأوروبي، برقم معاملات تجاوز 3 مليارات دولار سنويا قبل العام 2010.
ومع ذلك، يبقى هذا الرهان ضمن هذا المشهد، الذي يتسم بتسابق العديد من الدول العربية والأفريقية والغربية على إعادة تموقعها داخل ليبيا، هشّا بالنظر إلى ضجيج المناكفات السياسية الداخلية والمناورات المرتبطة بأجندات غير تونسية، الذي يجعل من إمكانية استعادة تونس لدورها ومكانتها في ليبيا محكوما بمدى قدرة الرئيس سعيد على ضبط الأمر باعتبار أن العلاقات الخارجية تبقى من صميم صلاحياته التي ضمنها له دستور البلاد.
العرب