ككرة الثلج تتدحرج الأزمة الأوكرانية إلى أبعاد بالغة الخطورة؛ فقد حذرت العواصم الغربية، هذا الأسبوع، روسيا من مغبة ترهيب كييف، وأعلنت الولايات المتحدة حالة التأهب بين قواتها في أوروبا، وأرسلت سفناً حربية إلى البحر الأسود. الكرملين اعتبر أن ظهور الجيش الأميركي قرب حدود روسيا يرفع منسوب التوتر والاضطراب، لافتاً إلى أن ذلك ينطوي على مخاطر عمليات قتالية واسعة، قد تكون “بداية النهاية” لأوكرانيا. تتهم روسيا حلف الناتو بالتمدد في جوارها لإضعافها، وكبح صعودها على المستوى الدولي. المراقبون يحذرون من نشوب حرب بين روسيا وأوكرانيا تنجر إليها أوروبا وأميركا؛ فأهم سمات السياسة أنها حبلى بالاحتمالات والمفاجآت.
جدلية الصراع
الحقيقة أنه يصعب تصور أن تقف جدلية الصراع الدولي عند حد معين أو شكل بعينه، فالجميع منهمك في صراع شرس، لتحقيق المصالح القومية وتوسيع مناطق النفوذ والمجالات الحيوية وتصفية الحسابات القديمة من جانب أطرافه الفاعلة، وهم كُثر. الأزمة الأوكرانية إحدى حلقات صراع مزمن على أوراسيا بين الروس والغرب، حيث يخوض الجيش الأوكراني معارك في مواجهة انفصاليين موالين لروسيا في منطقتي دونيتسك ولوجانسك شرقاً منذ عام 2014، بعد ضم موسكو شبه جزيرة القرم عقب انتفاضة أطاحت بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش الموالي لها، على أمل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ومن بعده “الناتو”، وتشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى سقوط 13 ألف قتيل في دونباس، ونزوح 1.7 مليون شخص، منذ بدء الصراع بين كييف والانفصاليين.
على مدى الأيام الماضية، أخذت ترتفع حرارة الأحداث، بعد هدوء ظاهري، في ظل تحركات للجيشين الروسي والأوكراني على الحدود، ومن جانب الانفصاليين، ما دعا مارك ميلي رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة لمهاتفة نظيريه الروسي فاليري غيراسيموف والأوكراني روسلان خومشاك، الذي أوضح أنه جرى نشر 28 ألف مقاتل انفصالي وألفي مستشار عسكري روسي، شرق أوكرانيا. ومن جانبه أكد نائب وزير الخارجية الروسي أندريه رودينكو أن كل الأحاديث حول نزاع محتمل بين الدولتين غير صحيحة.
غزو أوكرانيا
مكسيم يوسين خبير الشؤون الدولية الروسي يرى أن بلاده لا تنوي غزو أوكرانيا، ولو أرادت ذلك لفعلته في عام 2014 عندما كان الجيش الأوكراني غير موجود، وأن ما يجري استفزاز غربي لروسيا لعرقلتها وتكبيلها بالعقوبات وإضعاف اقتصادها، لخلق مشكلات اجتماعية تفضي للإطاحة بالرئيس فلاديمير بوتين. في المقابل ترى أصوات أوكرانية أن الغزو الروسي لبلادهم بدأ بالفعل، فقد كانت أوكرانيا تحارب الانفصاليين في شرق البلاد، والآن تحارب موسكو، لأن الأسلحة تصل للانفصاليين من روسيا. نجحت روسيا، حتى الآن، في توجيه لطمة عنيفة للغرب في أوكرانيا، ومن قبل في جورجيا، في مواجهة توسع حلف الناتو إلى حدودها، سيطرت على بحر أزوف والبحر الأسود، بانتزاع القرم من أوكرانيا، ثم وسعت نفوذها إلى سوريا وليبيا والشمال الأفريقي، وأفريقيا جنوب الصحراء، وفشلت “العقوبات الغربية”، بخاصة الأميركية، في لجم تمددها وحضورها في القضايا الإقليمية والدولية.
في عام 1835 كتب الكيسي دي توكفيل إن عقدة العلاقات الأميركية – الروسية سوف يظل يصنعها دائماً التاريخ والجغرافيا معاً، مؤكداً أنه يوجد في العالم (أي في الوقت الذي كان يكتب فيه) أمتان عظيمتان هما الروس والأنغلو – أميركيون تنطلقان من نقاط بدء مختلفة، ويبدو أنهما تتقدمان نحو الهدف نفسه، ويبدو أن كلاً منهما مدعو من قبل العناية الإلهية ومن خلال رغبة سرية لكي تمسك بيديها مصائر نصف العالم.
“مقولات توكفيل” تعني أن الصراع بين الروس والأميركيين شبه محتوم؛ لاختلاف توجه كل منهما والصراع على مناطق النفوذ، غير أن هذا الصراع قد ينتهي إلى اقتسام العالم بينهما. نبوءة توكفيل تحققت بالفعل، بانتهاء الحرب العالمية الثانية عندما كان العملاقان الأميركي والروسي (السوفياتي) يشكلان القوتين العظميين اللتين تقتسمان العالم كمناطق نفوذ. لكن بانهيار الاتحاد السوفياتي في كانون الأول (ديسمبر) 1991، صارت واشنطن قوة وحيدة مهيمنة، وتوارت روسيا في الظل تلعق جراحها، خلال عصر بوريس يلتسين، اعتبرها كثيرون مجرد قوة إقليمية، تحاول الالتحاق بالغرب، حتى أتى بوتين إلى الكرملين، فتغير كل شيء، وما بدا انهياراً في روسيا كان في حقيقته استراحة محارب.
المحرك الرئيسي
كانت فكرة استعادة روسيا لأمجادها في صلب مبادئ الحكم التي اعتمدها بوتين، وبقدر ما أثار ذلك الاعجاب بالداخل، تسبب في القلق بالخارج، رفض بوتين بقاء روسيا في الظل، ساعياً لأن تعود للعب أدوارها الدولية كقوة كبرى، لا تقبل التهميش أو الإغفال؛ بعثت موسكو بإشارات أنها لن تكون تابعاً للغرب، وسوف تمارس دورها، بما يحقق مصالحها الذاتية قبل أي شيء آخر، هذا النهج ما زال يحكم الاستراتيجية الروسية، وذلك في انعكاس وتجسيد لنظرية “الدفاع عن المكانة” عند هيغل، والتي اعتبرها الفيلسوف الألماني المحرك الرئيسي لعملية التاريخ بأسرها منذ فجر الإنسانية.
وتقوم استراتيجية روسيا لإعادة بناء وضعيتها كقوة عظمى على ثلاث دعائم: الرغبة في تأكيد الاعتراف بأن جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق وإلى حد ما شرق أوروبا مجال حيوي لموسكو. والعمل على منع استخدام تلك المناطق من أن تصبح بؤر تهديد لها. ثم اعتبار تلك المناطق جسورَ وصل مفتوحة، لا جدران عزل بين روسيا والعالم… ومن بين أبرز التكتيكات لإنجاز تلك الاستراتيجية: الاعتناء بحقوق الأقليات الروسية في تلك الدول، مثلما الحال في جورجيا وأوكرانيا وغيرها، ومحاولة وقف أي توسع من جانب حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي؛ كما تستفيد موسكو من علاقاتها القوية مع الصين وصادرات الغاز إلى أوروبا، ومن تحالفاتها المرنة مع تركيا وإيران، وترتيبات أسعار النفط مع السعودية، وصادرات السلاح إلى مصر والجزائر ودول بالشرق الأوسط وأفريقيا، إضافة إلى علاقاتها الوثيقة مع إسرائيل، وهي تتبنى سياسة خارجية نشيطة، وترى الانتصار في النزاع الأوكراني انتصاراً على الولايات المتحدة وأوروبا، واستعادة لمكانتها كقوة عظمى بمواجهة الغرب عسكرياً واقتصادياً وسياسياً.
دوائر النفوذ
يتفادى بوتين الظهور بمظهر الضعف، ومن خلال سيطرته على القرم أعاد ضمناً تأكيد حق روسيا الإمبريالي في أن (تبتلع) دولاً، من خلال الاعتراف بالجمهوريات المنفصلة في جورجيا وأوكرانيا. قطع خطوات واسعة من أجل الاعتراف بـ”المصالح ذات الامتيازات” التي تتمتع بها روسيا في بلدان معينة، حيث لا يرحب بتدخل الناتو فيها. أوضح بوتين مراراً أنه يجب الاعتراف بالروابط التاريخية والثقافية بين روسيا والبلدان الواقعة على حدودها وربما أبعد منها… وهذا تأكيد واضح للمبدأ السوفياتي القديم عن دوائر نفوذ موسكو. ذات مرة قال سيرغي ماركوف أحد نواب الدوما: لا نحاول إعادة بناء الاتحاد السوفياتي لكن يجب أن تحاط روسيا كامبراطورية عظمى بالأصدقاء.
وبرغم العقوبات الغربية التي فرضت على روسيا، بسبب الأزمة الأوكرانية منذ 2014، فإن النظرة الأميركية إليها تبدلت، خلال العقدين الماضيين، من قوة إقليمية إلى منافس للولايات المتحدة وخطر داهم على النظام العالمي، لذلك استهلت إدارة بايدن عهدها بفرض عقوبات جديدة على موسكو، على خلفية اتهامها بتسميم المعارض الروسي نافالني. وطالب بايدن حلفاءه الأوروبيين بتقوية التحالف عبر الأطلسي، بوصفه مفتاح ردع روسيا، وكان لافتاً أنه خصص 715 مليار دولار للبنتاغون؛ من أجل مواجهة الصين وروسيا، وهو ما وصفته ماريا زاخاروفا المتحدثة باسم الخارجية الروسية أنه إفصاح عن ثمن الفوبيا الأميركية من موسكو وبكين.
أكبر الخاسرين
ومع طبول الحرب التي تقرع في شرق أوكرانيا، تبدو أوروبا أكبر الخاسرين، فالاتحاد الأوروبي لا يبدو قادراً على اتخاذ موقف موحد حيال ما يجري. دول الاتحاد منقسمة حول مدى خشونة التعامل مع روسيا، ويقود الثنائي الألماني – الفرنسي جهود الوساطة منذ اتفاقات مينسك عام 2015، وفشلت وساطتهما أخيراً بين بوتين ونظيره الأوكراني زيلينسكي الذي انتخب في 2019 على خلفية تعهّده إنهاء النزاع. ينظر القادة الأوروبيون إلى روسيا كمهدد لأوروبا، بينما يشكّون في جدية المساندة الأميركية، بخاصة بعد ما فعله ترامب بهم؛ لذلك يسعون إلى إنشاء جيش أوروبي يكون بديلاً عن “الناتو”، وهذا ما تتمناه روسيا!.
لكن برغم هذا النجاح المرحلي الكبير ليس من الواضح على الإطلاق إذا كان في إمكان بوتين تحقيق تلك الأهداف الاستراتيجية الكبرى لروسيا، ففي خلفية الأزمة الروسية – الأوكرانية، تتصاعد النبرة العدائية ضد بلاده من جانب شعوب شرق أوروبا، يعزف جيران روسيا على الوتر التاريخي؛ متمثلاً في كراهية الاتحاد السوفياتي السابق وبالتبعية روسيا الحالية من جانب جيرانها كالأوكرانيين وغيرهم، ما قد يعرقل الدب الروسي، وفقاً لقوانين الديناميكا، حتى مع مراعاة “مبدأ هيغل”!.