بسبب من الذكرى العشرين لهجمات 11/9، واقترانها بالانسحاب الأمريكي من أفغانستان ونجاح الطالبان في بسط هيمنتها على البلد، عادت إلى الأضواء سلسلة وقائع وملابسات وأقاصيص وتأويلات وقراءات مستعادة/ مجدّدَة لظواهر شتى؛ كما استُذكرت أسرار لاح أنها تكشفت تماماً في الماضي، ليتضح راهناً أنّ بعض خيوطها بقيت طيّ الكتمان أو أُبقيت قيد مقادير مختلفة من التضليل المتعمد. وليست مفاجأة أن يكون الشرق الأوسط، بمسائله الشائكة القديمة أو الحديثة هو بؤرة التركيز الكبرى؛ وأن تكون مؤسسات أمريكية مثل وكالة المخابرات المركزية ووزارة الخارجية والبنتاغون، فضلاً عن البيت الأبيض بالطبع، هي مقارّ الغالبية العظمى من سرديات، إذا جاز التعبير، عادت إلى الأضواء.
ليست الظاهرة جديدة بالطبع، وقد تكررت مراراً في مناسبات أمريكية مختلفة اقتضت هذا العيار أو ذاك من التشديد على الماضي، أو كشف بعض خفاياه، مع الحرص على ضخّ عيار من الدراما التشويقية، في السياسة كما في المؤامرة، وفي الاستخبار كما في… الاستعراب! وهكذا، لم يكن غريباً أن تعود المخابرات المركزية الأمريكية إلى تكريم روبرت إيمز (1934-1983) عميلها الذي قُتل في بيروت خلال تفجير عبوة ناسفة، وكان أوّل ضابط استخبارات أمريكي يلتقي، سرّاً، مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في بيروت، ربيع 1977، بترتيب من علي حسن سلامة (في حقبة اقتضت من الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر قبول استقالة أندرو يونغ، المندوب الأمريكي الدائم لدى مجلس الأمن الدولي، بسبب لقائه مع ممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية في نيويورك). وإلى جانب ألقاب مثل «الجاسوس الطيب» و«لورنس العرب الأمريكي» حظي إيمز من أصدقاء دولة الاحتلال الإسرائيلي في الولايات المتحدة باللقب الآخر، الأهمّ ربما: المستعرب!
ولقد كُرّم إيمز صحبة أمثال توني منديز، أشهر مزوّري الوكالة، الذي لفّق إنتاج فيلم سينمائي لإخراج ستة من الدبلوماسيين الأمريكيين من إيران سنة 1980(موضوع فيلم بن أفليك الشهير Argo)؛ أو إليزابيث سودمير، التي كانت بين عدد نادر من العميلات النساء المتخصصات في شؤون الشرق الأوسط، وشيفرات السلاح السوفييتي على وجه التحديد. غير أنّ تقليد إيمز أرفع أوسمة الوكالة، الـ Trailblazer، حمل دلالة بالغة الخصوصية، هي تكريم مستعرب؛ ربما للمرّة الأولى والأخيرة خلال 70 سنة من عمر الوكالة. ذلك لأنّ لفتة كهذه كفيلة بإغضاب مجموعات الضغط الإسرائيلية في كلّ من البيت الأبيض والخارجية والوكالة، من جهة أولى؛ كما تعيد فتح ملفّ إشكالي لاح أنّ المحافظين الجدد، خلال رئاستَيْ بوش الابن، تكفلوا بإغلاقه نهائياً.
والاستعراب ظاهرة عُرفت في التاريخ الاستعماري باسم عجيب الاشتقاق، ملتبس المعنى، طارئ الاختصاص؛ فاستولدت مهنة جديدة تحت مسمى «المستعرب» Arabist، التي يتوجب تمييزها عن وظيفة بالاسم ذاته لاستخبارات وجيش الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. والمستعربون يختلفون، في التصنيف والتعريف، عن المستشرقين الذين تكفّل الراحل إدوارد سعيد بتفكيك مآربهم ومشاربهم وأجنداتهم وفضائل بعضهم وقبائح معظمهم. أو قلْ إنهم تلامذة أبناء للمستشرقين الآباء، يسخّرون طرائق الاستشراق في خدمة الأغراض الجيو – سياسية والدبلوماسية والأمنية للقوى العظمى، الغربية غالباً.
مستعربو هذه الأيام يمكن أن يعودوا القهقرى لتلمّس جذور أخرى، أكثر عمقاً وأقلّ تسطيحاً وأبعد عن التنميط، وراء وقائع وملابسات وقراءات مستعادة/ مجدّدَة لظواهر شتى تخصّ عثرات السياسات الأمريكية، وما استتبعته من أخطاء قاتلة
والمستعربون هؤلاء متعددو المنابع والأهواء والمواهب، فمنهم الأكاديمي أو السفير، ومنهم الأديب أو ضابط الاستخبارات، ومنهم المعلّق السياسي أو عالم الآثار؛ ويكفي للتدليل على «تعددية» تكوينهم أن يسرد المرء لائحة محدودة للغاية من أسماء كبارهم: ريشارد برتون، الليدي هستر ستانهوب (أو «ملكة البدو» في اللقب الظريف!) توماس إدوارد (لورانس العرب) جرترود بيل، هاري (عبد الله) فيلبي، دانييل بليس (مؤسس «الكلية البروتستانتية السورية» التي ستتحوّل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت). ثمّ، في اللائحة المعاصرة، ريشارد مورفي، هيرمان إيلتس، روبرت بلليترو، دافيد نيوتن (السفير ما قبل الأخير للولايات المتحدة في عراق صدّام حسين) والسفيرة الشهيرة أبريل غلاسبي، التي أبلغت دكتاتور العراق بأنّ الولايات المتحدة ليس لها رأي في نزاعه الحدودي مع الكويت.
ولقد لحق المحاق بهذه الفئة لاعتبارات عديدة، ولكنّ العوامل السياسية التي تلازمت مع ولادة دولة الاحتلال الإسرائيلي، والانحياز المطلق الذي اتسمت به السياسات الخارجية للولايات المتحدة والغرب إجمالاً لصالح أمن الكيان الصهيوني، كان في رأس تلك الاعتبارات. ذلك لأنّ هذه الفئة اتُهمت مراراً بالتعاطف مع العرب، أو الخلط بين عشق اللغة العربية والافتتان بحياة الصحراء، وبين الحماس للقضايا العربية أو السعي إلى تفهّم السخط العربي تجاه الغرب. هذه حال لخّصها مورفي بمرارة ذات يوم: «أصبحت كلمة مستعرب ترادف الذهاب إلى الفراش مع العرب، فكرياً ودبلوماسياً». وإلى جانب هذا المعنى الرجيم، رأى مورفي أنّ المستعرب، في التصنيف الأمريكي المعاصر على الأقلّ، هو ذاك الذي «صار مختصاً باللغة العربية ومنطقتها، وصرف بعض سنواته الوظيفية عاملاً في، أو حول، الشرق الأوسط».
من جانبه كان فرنسيس فوكوياما، صاحب صرعة «نهاية التاريخ» قد خصّ ظاهرة الاستعراب بتحليل أكثر تهذيباً، واتكأ على معلّمه الفيلسوف الألماني هيغل كي يعتبر المستعربين «ظاهرة سوسيولوجية، ونخبة داخل النخبة، ارتكبوا من الأخطاء المنهجية أكثر بكثير مما ارتكب زملاؤهم من المختصين بمناطق أخرى في السلك الدبلوماسي. والسبب في ذلك أنهم لا يتبنّون القضايا العربية فحسب، بل يتبنّون الميل العربي إلى إيهام الذات أيضاً». وبذلك فقد تكون حكاية النوم في فراش العرب أقلّ وطأة من هذا التشخيص!
وليام كواندت، الباحث والمؤرّخ المعروف المختصّ بالدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط، يميل إلى إنصاف هؤلاء، عن طريق وضع تصنيفاتهم التنميطية في سياق سياسي ملموس: «المستعربون لا يشبهون أمثالهم من أخصائيي المناطق، في المخيّلة الشعبية على الأقلّ. فإذا أشار المرء إلى أفريقاني، مثلاً، فإنّ الصورة الناجمة سوف تصف شخصاً مختصاً بتاريخ ولغات وثقافات أفريقيا، ممّن قضى في القارة ردحاً من الزمن، ولن تتبادر إلى الذهن تداعيات تدعو إلى ذمّ الرجل. لكنّ صفة المستعرب تستدعي، على الفور، دلالة سيئة: هو ذاك الذي صرف الوقت في تعلّم اللغة العربية، أو عاش زمناً طويلاً في العالم العربي، وهو معادٍ لإسرائيل بالضرورة»!
كلّ هذا لا يعني، البتة، عدم وجود مستعرب مستيقظ الضمير، ناقد لسياسات بلاده، مدرك لمخاطرها على المدى البعيد، مستعدّ للذهاب إلى حدّ الاستقالة من منصبه في سياق قناعاته. تلك حالة نادرة للغاية، كما يتوجب التحذير، ولعلّ أشدّها وضوحاً كانت استقالة جون برادي كيسلنغ من عمله في وزارة الخارجية الأمريكية، قبيل أسابيع من غزو العراق. ففي كتاب استقالته قال كيسلنغ، الذي سبق له أن عمل في دولة الاحتلال والعالم العربي: «إنّ مسارنا الراهن سوف يجلب انهيار الاستقرار والمخاطر، وليس الأمن».
مستعربو هذه الأيام يمكن أن يعودوا القهقرى لتلمّس جذور أخرى، أكثر عمقاً وأقلّ تسطيحاً وأبعد عن التنميط، وراء وقائع وملابسات وأقاصيص وتأويلات وقراءات مستعادة/ مجدّدَة لظواهر شتى تخصّ عثرات السياسات الأمريكية، وما استتبعته من أخطاء قاتلة؛ في ملفات مثل «الحرب على الإرهاب» والتواطؤ مع استبداد الأنظمة العربية، واستيهام و/ أو قسر التطبيع مع دولة الاحتلال، وإعادة إنتاج طراز الاستشراق المنضوي تحت لواء البنتاغون (على غرار أمثال برنارد لويس وفؤاد عجمي)… الثابت، مع ذلك، أن 20 سنة بعد 9/11 إنما تستكمل سيرورات محاق الاستعراب، في انتظار اندثاره مرّة وإلى الأبد.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
“القدس العربي”