نشرت صحيفة “فايننشال تايمز” تقريرا عن مقامرة رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان على انتصار حركة طالبان في أفغانستان وما سينعكس على هذه المراهنة من تأثيرات داخلية وخارجية ومستقبل خان كرئيس للوزراء.
وترى الصحيفة أن محاولات إسلام أباد إعادة بناء دورها الاستراتيجي بالمنطقة قد تتأثر بدعمها للحكومة الإسلامية في كابول. وقالت ستيفاني فيندلي، إن “طالبان خان” كانت لها الضحكة الأخيرة وأثبتت صحة توقعاتها بسيطرة طالبان على كل أفغانستان. فرئيس الوزراء الجذاب ولاعب الكريكيت الدولي الذي عرف بمغامراته العاطفية قبل تحوله إلى السياسة، ظل وعلى مدى السنوات الماضية ناقدا للغزو الأمريكي لأفغانستان مستخدما خطابا معاديا لأمريكا وجد جمهورا داخل باكستان وأبعد منها. وطالما دعا المسؤول الباكستاني وحتى قبل أن يبدأ الرئيس دونالد ترامب محادثات السلام مع الحركة إلى تسوية سلمية معها. وانتقد دائما الحرب على الإرهاب ودور بلاده فيها، مشيرا في عدد لا يحصى من المقابلات أن باكستان كانت ضحية الحرب وارتكبت الخطأ الأكبر بالمشاركة فيها حيث تكبدت أكثر من 70.000 باكستاني مقارنة مع عدد القتلى الأمريكيين الذي لم يتجاوز 2.500 شخصا. وهدد عام 2013 كزعيم لحزب “تحريكي إنصاف” بمنع إمدادات الناتو عبر باكستان بعد غارة بطائرة مسيرة.
خان لم يكن الوحيد المتعاطف مع طالبان، فهي تحظى بدعم واسع في باكستان.
وبسبب مواقفه المؤيدة لطالبان تعرض للسخرية ونظر إلى مواقف بالجوفاء أو غير الناضجة. لكن خان لم يكن الوحيد المتعاطف مع طالبان، فهي تحظى بدعم واسع في باكستان.
وفي استطلاع أجراه معهد غالوب في أيلول/سبتمبر وجد أن 55% من الباكستانيين “راضين” من سيطرة الإسلاميين في أفغانستان. وكشفت سيطرة طالبان والانسحاب الأمريكي الفوضوي عن بعد تفكير لدى خان إن لم يكن دقيقا. وتلقى دعواته الأخيرة للتعاون مع طالبان ومنحها حوافز تعاطفا داخل باكستان حيث ينتشر الحنق والعدوانية من الحرب على الإرهاب التي قادتها الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد 9/11.
هل ستؤدي مقامرة باكستان على طالبان إلى ثمار أم أنها ستطلق العنان لموجة جديدة من التطرف الإسلامي؟
ولهذا السبب وطريقة تعامل حكومته مع فيروس كورونا، حيث سجلت حالات أقل من الجارة الهند ولم يؤثر على الاقتصاد، تقترح استطلاعات الرأي أن خان سيكون رئيس الوزراء الذي سيكمل فترته في الحكم منذ ذو الفقار علي بوتو في السبعينات بل وسيعاد انتخابه. وفي الوقت الذي يقوم فيه خان بقيادة بلده في ظل إعادة تشكل راديكالي للنظام الجيوسياسي في جنوب آسيا المترافق مع رحيل الولايات المتحدة من أفغانستان، تحاول باكستان تقديم نفسها للقوى العالمية كجسر استراتيجي في المنطقة.
والسؤال هنا: هل ستؤدي مقامرة باكستان على طالبان إلى ثمار أم أنها ستطلق العنان لموجة جديدة من التطرف الإسلامي؟
ويتمتع خان بشعبية واسعة في ظل الحالة المهلهلة للأحزاب السياسية التي تعاني من صراع عائلي على السلطة بالإضافة لعلاقته مع المؤسسة العسكرية في البلاد. وفي آخر استطلاع لغالوب باكستان كشف عن شعبية له بنسبة 48%، وهي الأعلى منذ وصوله إلى السلطة عام 2018، ويعتقد 7 من 10 باكستانيين أنه سيكمل ولايته التي تنتهي عام 2023.
ويرى بلال جيلاني، المدير التنفيذي لغالوب باكستان “عمران خان والجيش على توافق وهم راضون عنه”. و”المسألة ليست في ان خان راغب في أن يكون خاضعا لهم بل ويشترك معهم بالرأي”. ويعطي خان الجيش حرية إملاء السياسة الخارجية للدولة النووية، في وقت يتأكد من تحييد معارضيه عبر حملات مكافحة الفساد. وهذا لا يعني أن الطريق من اتجاه واحد، فخان يواجه تحديات عدة. فهو لم يحقق وعوده ببناء دولة رفاه إسلامية والتضخم في مستويات عالية، 8% وأسعار الطعام في ارتفاع ومخاطر الإرهاب في تزايد مع وصول طالبان إلى الحكم- وهي النتيجة المتناقضة ظاهريا لانتصار السياسة الخارجية الباكستانية. ويرى عارفون من داخل الحكومة أن غريزة خان في قضايا مثل قراره عدم فرض إغلاق مشدد لمواجهة فيروس كورونا مما جنب الفقراء المعاناة الإقتصادية حظيت بشعبية. وقال مستشار حكومي “عندما أغلق الجميع أبوابهم، قال خان: لا، عليكم أن تثقوا بي في هذا”. وأضاف “اعتقدنا أنه انتهى وأن حكومته ستنهار، لكنه أثبت خطأنا، وعليك ألا تسيء تقدير هذا الرجل، يرتكب أخطاء ولكنه يعود مرة أخرى”. ولم يكن هناك لبس في تعاطف خان مع حركة طالبان، وقال إنها “حطمت قيود العبودية” من خلال الإطاحة بحكومة أشرف غني. وقال إن الحرب في أفغانستان “لا يمكن الانتصار بها” لأن الأفغان لن يقبلوا أبدا بالمحتل الأجنبي. وبعد الإعلان عن حكومة طالبان، قال الزعيم الباكستاني إنه يجب منح الإسلاميين “وقتا” قبل الحكم عليهم في مجال حقوق الإنسان وطريقة حكمهم، وهو موقف ردده كبار المسؤولين العسكريين في العاصمة إسلام أباد. ولا أحد يشك في موقف “المؤسسة” العسكرية الباكستانية من انتصار طالبان والذي تعامل معها كانتصار استراتيجي، حتى بمخاطر تشجيع المتطرفين في المنطقة وتنفير الغرب وفتح الباب أمام موجات من الهجرة التي قد تزيد من الضغوط على الاقتصاد.
واتسمت علاقة حكومة أشرف غني بالتوتر مع إسلام إباد التي اتهمتها بالتقارب مع نيودلهي، منافسة باكستان النووية. وبظهور نظام صديق في كابول يشعر الجنرالات في مقراتهم بروالبندي بالأمان. وفي إيجاز مع مسؤولين بازرين في الأمن الباكستاني كانت النبرة انتصارية وقالوا “الهنود يشعرون بالقلق” و “لكننا لا نسعى لإحراج الهند في أي مكان”. ولا شيء يعبر عن ثقة باكستان الجديدة من صورة مدير الاستخبارات فياض حميد الذي كان يرتدي سترة وسروال شينو مكوي بعناية وهو يحمل كأس شاي في بهو فندق شيراتون بكابول للقاء مسؤولين في طالبان وبعد سيطرة طالبان على العاصمة بأقل من أسبوع.
وقال محلل أفغاني إن الزيارة كانت إشارة جريئة “وجلسته المريحة تعبر عن ثقة باكستانية”. وبعد يومين أعلنت طالبان التي استخدمتها باكستان كوسيلة لتوسيع تأثيرها الإقليمي، عن تشكيلة الحكومة الجديدة. ولعبت شبكة حقاني، المنظمة الجهادية التي وصفها الأدميرال الأمريكي مايك مولين عام 2011 بأنها “الذراع الحقيقي” للمخابرات الباكستانية دورا مهما فيها. وتم تعيين سراج الدين حقاني، الرجل المطلوب لمكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي أي) وزيرا للداخلية. وكان تركيز خان، منذ إعلان الحكومة الدفع لمنح الشرعية لها حيث تحاول إسلام أباد التقرب للنظام الجديد. ويرى سجان غوهيل، الخبير بشؤون جنوب آسيا بمدرسة لندن للاقتصاد “كان نصرا لباكستان وأعتقد أن هدف عمران خان هو أن يكون صوتا لتحقيق الاعتراف والشرعية عالميا” وأضاف “قبل سيطرة طالبان كان يعمل كوجه مدني للنظام الذي يدعمه الجيش في باكستان” و “منذ سيطرة طالبان كان يعمل لتحقيق الاعتراف بها”. وفي خطاب مسجل أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 أيلول/سبتمبر هاجم فيه الولايات المتحدة لاستخدام باكستان كبش فداء لفشلها في أفغانستان.
ودعا للتعامل مع نظام طالبان لمنفعة الجميع. وجاءت دعوته وسط أدلة عن عودة نظام كابول الجديدة إلى الممارسات البشعة التي مارسها نظامها في التسعينات من القرن الماضي. وعلقت الحركة جثث أربعة أشخاص بالرافعات بمدينة هيرات اتهموا بالاختطاف. ونقلت وكالة أنباء أسوشيتد برس عن مسؤول قوله إن الحركة ستبدأ بتطبيق الإعدام. لكن دعوات خان لم تلق آذنا صاغية، فقد رفض جوزيف بايدن الاتصال بخان منذ وصوله إلى البيت الأبيض.
ويرى حسن جاويد، الأستاذ المشارك بعلم الاجتماع في جامعة لاهور لإدارة العلوم “تحاول باكستان تقديم نفسها كوسيط بين الغرب وأفغانستان ولكن لا أحد يشتري هذا على ما يبدو”. و “سيكون لهذا ثمن في مجال العلاقات مع الولايات المتحدة، وما تعول عليه باكستان هي قدرتها على التحول نحو الصين” كما يقول. ولكن باكستان لا يمكن التعامل مع الصين كأمر واقع. ويطلق البلدان على بعضهما البعض بـ “الشقيقين الحديدين” مع أن علاقة إسلام أباد بردت في ظل حكم خان. فالممر الاقتصادي الصيني- الباكستاني بكلفة 62 مليار دولار وهو جزء مبادرة الحزام والطريق، فقد زخمه بعد سلسلة من الهجمات التي نظمتها طالبان باكستان. وتبع هجوم على السفير الصيني في نيسان/أبريل تفجير حافلة في تموز/يوليو قتل فيه 9 من المواطنين الصينيين وهو من أسوأ الهجمات ضد المصالح الصينية في البلد. ونفت طالبان باكستان التي تعارض الحكومة مسؤوليتها عن الحادث. وألقى تدهور الأوضاع الأمنية مزيدا من ظلال الشك حول قدرة باكستان تأمين الحدود مع أفغانستان من المتطرفين مثل طالبان باكستان والقاعدة. وبعد عقد الاجتماع الذي تم تأخيره للممر الاقتصادي الصيني- الباكستاني، كان موضوع الأمن هو البند الأبرز حيث وعد الجيش الباكستاني الصين بأنه سيحمي استثماراتها. ويأتي برود العلاقة مع الصين في وقت باتت فيه باكستان بحاجة للاستثمار الاقتصادي. فالتضخم هو الأعلى في جنوب آسيا وفقدان الروبية قيمتها بمعدلات كبيرة، وهذا بسبب انهيار الاقتصاد الأفغاني وذلك بسبب وقف الدعم الأجنبي. ويقول المسؤولون الأمنيون إنهم يريدون إصلاح العلاقات مع الولايات المتحدة و ” من مصلحتنا أن تكون لنا علاقات ممتاز ة مع الغرب” حسب مسؤول أمني بارز. وأضاف “تدرب معظمنا في الولايات المتحدة ونستمع للموسيقى الغربية وليس الصينية وارتكبنا أخطاء ولكن نريد تفهمكم”. ولكن هناك تشكك في مزاعم باكستان أنها طوت الصفحة بعد سنوات من اللعب على الحبلين، دعم الغرب والدعم السري لطالبان. ويقول دبلوماسي غربي في إسلام أباد ” حكومة خان قلقة جدا لو تراجع المناخ الأمني وتقلص الاقتصاد مرة أخرى” و “هناك عجز ضخم في الثقة مع الولايات المتحدة ولا أحد من عهد أوباما يثق بهم”. وتعي إسلام أباد أنها بحاجة لدعم الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين لتجنب الانهيار الاقتصادي والحصول على قروض من صندوق النقد الدولي وتجنب العقوبات ووضعها على قائمة غسل الأموال وتمويل الإرهاب “وحدة المهام الخاصة للعمل المالي”. وقالت عظيمة شيما، المديرة في “فيرسو كونساليتنغ” بإسلام أباد “التضخم سيكون كعب أخيل خان في الانتخابات المقبلة” و “لم يكن هناك استقرار”. وقال محمد بانراس، الجزار في إسلام أباد “صوت لخان في عام 2018 ولن أصوت له أبدا” و “التضخم عال ولم يعد بإمكان الناس شراء اللحوم، وقبل عامين كنت أبيع 10 خراف في اليوم أما الآن فخروفين”. ويتوقع أن ينمو الاقتصاد الباكستاني بنسبة 4% عام 2022 وهذا راجع للسياسات المالية التي أعلن عنها لتشجيع النمو بعد صدمة الوباء. مع أن وزير المالية شوكت تارين حذر قبل فترة من توسع الاقتصاد بطريقة غير مستدامة وتزايد فاتورة الاستيراد. وقال عمار خان الخبير المستقل في الاقتصاد الكلي في إسلام أباد أن باكستان تكافح لزيادة التصدير وتريد استمرار قرض 6 مليار دولار من صندوق النقد الدولي. ومن المتوقع أن تبدأ المحادثات للإفراج عن مليار دولار أخرى في تشرين الأول/أكتوبر، مع أن الحكومة مترددة في زيادة فواتير الكهرباء بشكل يزيد من الضغوط على المواطنين. وقال خان “ميزانية البيوت في تقلص بسبب فقدان القدرة الشرائية والتضخم الذي يضغط على الجميع”. وتمثل المصاعب الاقتصادية تربة خصبة للمعارضة لكي تعبئ صفوفها ضد حكومة خان، لكن الرابطة الإسلامية بزعامة نواز شريف في حالة من الفوضى. وصدر حكم على زعيمها رئيس الوزراء السابق بالسجن في 2018 وهي تهم يرفضها ويعتبرها ذات دافع سياسي. وفي غيابه اختلف شقيقه شاباز شريف وابنته مريم نواز شريف حول وجهة الحزب. فشاباز معتدل ومنفتح على التعاون مع الجيش، لكن مريم صدامية وتريد تفكيك المؤسسة والدفاع عن المؤسسة المدنية. ويظل الخطر على حكومة خان نابع من ارتداد رهانها على طالبان سلبا.
وقامت حركات مثل طالبان باكستان بزيادة هجماتها الإرهابية بشكل يهدد بعودة البلاد إلى الأيام المظلمة عندما كافحت من أجل السيطرة على تمرد واسع.
“القدس العربي”