الحياة – 03/04/09//
تتسارع في لبنان وتيرة الاستعداد لليوم الاقتراعي الموعود، في السابع من حزيران (يونيو) المقبل، ومع الاستعداد ترتفع وتيرة الخطب «والبرامج» المتقابلة، مما خبره اللبنانيون وعاشوه، طيلة العمر الاستقلالي، لكيانهم الوليد. ضمن ورشة التحضير، هذه، ينصرف «اليساريون»، من وضعياتهم الحالية المختلفة، إلى محاولة صياغة موقف من الاستحقاق الانتخابي، ترشيحاً واقتراعاً. المهم، في هذا المضمار، ليس الممارسة الانتخابية، في حد ذاتها، وإنما المضمرات والتقديرات السياسية، التي تفتي بهذه الممارسة أو تلك، وتؤمن لها الاجتهاد «الفكري والسياسي»، الذي يجعل من سلوك دروبها، أمراً قريباً من الصواب، الإجمالي، وعلى صلة بمجمل الطرح البرنامجي المقرر، وغير بعيد عن منطق التكتيكات الخططية، المعتمدة، والمدروسة، هي الأخرى، بعناية ودقة.
تجدر الإشارة إلى أن المتغير الذي يواجه «اليساريين»، ليس الانخراط في العملية الانتخابية، أو مقاطعتها، بل إن ما يطرح نفسه على جدول أعمالهم، هو المتغير «السياسي العام»، الذي حفر عميقاً في التشكيلة اللبنانية… خاصة، منذ توقيع اتفاق الطائف، وحتى اللحظة السياسية الراهنة. إدراك التحولات العميقة، التي أصابت البنية الداخلية، هو إدراك في الوقت ذاته، لحجم الإصابات البليغة، التي نالت من «الجسم اليساري والديموقراطي»… هذا إذا أراد القارئ «الموضوعي»، أن يدخل إلى عالم «اليسار» من أبواب الوطن العريضة، وإذا تخلى عن صنوف من القراءات الضيقة، التي مال زالت تتطلع إلى «البلد»، من خلال «عدساتها اللاصقة» فقط.
الحكم الإجمالي، الذي يستوجبه الإقرار بواقع تراجع «الاجتماع الداخلي» اللبناني، وتقلص مساحاته المشتركة، يدل بصورة واضحة، الى التراجع الإجمالي لـ»اليسار» الذي كان يحتل هذه المساحات المتداخلة، وعلى التراجع التفصيلي أيضاً، في كامل «المساحة الديموقراط ية»، نتيجة اندماج مسار النكوص الوطني العام، مع مسار العجز «الحزبي» الخاص، الذي ناء بأعباء القراءة الفكرية التجديدية، ولم يستطع النهوض بأحمالها.
انطلاقاً من اتفاق الطائف، الذي أخمد نيران الحرب الأهلية، وبالتأسيس عليه، تجدر الإشارة إلى انفراط «العقد اليساري»، بعد أن أُدخلت مجموعة من الأحزاب، التي تشكل منها إطار «الحركة الوطنية»، إلى رحابه، وأُبقي بعض من هذه الأحزاب خارجها. كان الالتحاق بالتشكيلة السياسية الجديدة من نصيب ذوي المشارب «التقدمية والقومية»، وظل الاستبعاد حصة «الشيوعيين اللبنانيين»، الذين لم يوفر «حزبهم» جهداً، للفوز ببطاقة دخول إلى «التوليفة السياسية» الجديدة. ما يستوجب النقاش، في مجال العلاقة بالتشكيلة السياسية، ليس مطلب ولوج عالمها، أو الوقوف خارجه باستمرار، وإنما طرائق الدق على أبوابها الثقيلة الصدئة، وأساليب اقتحامها، على حوامل القوة والفرض والإكراه، التي تأتي «النسق الرسمي»، من خارج منظومة أفكاره وعلاقاته… أي من ميدان المعارضة الشعبية، التي تراكم بدائلها، وتبني عمارة نموذجها، من لبنات الاحتجاج العام على السائد، ومن مختلف المنابر الأخرى، التي تضم، في ما تضم، مسرح الندوة البرلمانية. ما فعله «الشيوعيون»، تحديداً، هو الانسحاب المتدرج من ميادين المراكمة الشعبية، الضاغطة على بنية الحكم من خارجها، والاكتفاء «بالتذكير» بالوزن الموروث التاريخي، لحركة النضال السياسي، الوطني والاجتماعي، الذي كان الشيوعيون، دائماً، في صدارته. لكن التذكير، الذي لا يستند إلى «كتب الحاضر»، لا يعوض الوزن السياسي، المتلاشي، لأصحابه، وذكر الأمجاد الغابرة، لا يضيف إلى وقائع الأيام الحاضرة، إلا بمقدار ما يكون الماضي موظفاً، بطريقة حية وحيوية ومتجددة، تساعد على فك «حروف الحاضر»، واستشراف حل «شيفرة المستقبل»، الاجتماعية. لقد قصّر الشيوعيون، بعد أن صاروا هم «اليسار الحصري» تقريباً، عن اشتقاق لغتهم المعارضة الخاصة، وبعد أن «هالهم»، ما يتطلبه بناء موقع المعارضة الشعبية، المتجددة، من مشقات. إذا أردنا أن نحاكم المسلك الانتخابي، للشيوعيين (كونهم قطب الرحى اليساري)، بمعاييرهم الماركسية واللينينية، لوجدنا افتراقاً، بين الممارسة العملية، وبين مستنداتها النظرية. مسألة التحالفات، التي هي سمة لينينية بامتياز، تفترض برنامج الحد الأدنى مع الحليف، والأهداف القريبة التي يسعى المتحالفون لتحقيقها… والبرامج، تكون واضحة وتفصيلية، فلا يقوم الشعار العام الغائم، أو التعميمي، مقام وقائعها… لهذا يصير السؤال مشروعاً حول البرنامج الذي يهدي التحالف الانتخابي، ويعين محطاته، ويحدد خطواته المتتابعة.
لقد اعتمدت اللينينية منابر «الرأسمالية» للترويج لأطروحاتها، ولإيصال أفكارها إلى أوسع جمهور ممكن، أي أنها اعتمدت المناسبات الانتخابية، النقابية والسياسية وما شابهها، كوسائل «تحريض وفضح وتعرية»، للنظام الذي تريد تغييره»، هكذا لم يكن «المقعد، مطلباً في حد ذاته، وإنما كان واسطة من وسائط النضال المتعددة… السؤال، هنا أيضاً، ما الخطاب «التنويري… التحريضي»، الذي يهدف «اليسياريون والشيوعيون» إلى إيصاله؟ ومن هي الكتلة الشعبية المعنية بالمخاطبة؟. دون إيغال في تعداد العينات واستعراضها، يجب لفت الانتباه إلى عدم مخاطبة «الجمهور اليساري» ككتلة ناجزة، وعدم التوجه إلى «الطبقة العاملة وصغار الكسبة وعموم الكادحين بأفكارهم وأياديهم…»، وكأن المتغيرات لم تمر على تلك الفئات الشعبية، أو كأن الاصطفاف الطائفي لم يطح بالمرتكزات الأساسية، لتلك الفئات، في مواقع العمل، وفي المرجعيات الفكرية والسياسية!!. التسليم بواقع اللوحة «النكوصية»، ومفاعيلها الارتدادية البنيوية، على مجمل الوضع اللبناني، يقود إلى الاعتراف «المنطقي»، والموضوعي، بتضاؤل وزن «اليساريين والديموقراط يين والعلمانيين… وكل الذين تحدوهم الرغبة في تجاوز واقع الحال، وتدغدغهم آماله. انتزاع الاعتراف، من الطامحين إلى لعب أدوار «مضخمة»، لا تسمح بها الموازين الأهلية اللبنانية، يشكل مدخلاً صحيحاً، لكي ينصرف الجمع إلى التدقيق في شروط وحدود الدور، الذي ما زال متاحاً «لعابري العصبيات» الأهلية. من المهم، في هذا السياق، التشديد، على أن الدور، ولو ضئيلاً، ما زال مطلوباً، وأن صفته الأساسية يجب أن تكون تأسيسية، أما ميادين التأسيس فشاملة، وأصحابها لا ينطلقون من صفر فكري، أو من عدم سياسي أو اجتماعي. لكنهم، سيصلون إلى «الصفر» النضالي حتماً، إذا ما خيّل إليهم، أنهم يستطيعون القفز إلى «نهائيات» المرحلة السياسية، من دون المرور بمقدماتها التمهيدية.
بمعايير «يسارية وشيوعية»، وبالنظر إلى معطيات اللوحة السياسية والاجتماعية، اللبنانية لا يسهل القول بقيام تحالف بين طرف «أهلي» وآخر «يساري»… الأصح الاعتقاد، بأن «الخارجين» على الوصاية الأهلية، لا حلفاء لهم، لذلك يتعذر افتراض برنامج محدد، لحالة غير موجودة. أما إذا أصرّ البعض، على كسر ذراع «النظرية» وإغماض عينيها، فإنه يستطيع عندها، التلفع بشعار من هنا، وبخطاب مستعار من هناك، للالتحاق «بالركب»، كون الالتحاق، يشكل أيسر السبل للدخول إلى «جنة البرلمان» وأوجز القول (غير البليغ)، الذي يثبت «صحة نظرية الحزب»… والكأس الذي لا سبيل إلى رد شرابها، كي يستعاض عن تناقص الوزن، بمقعد نيابي… ثقيل!
* كاتب لبناني.