يجادل كثيرون ( وهم على حق طبعاً ) ، في أن حليمة لم تغادر حتى تعود . فمازالت أفكارها القديمة ، ووسائلها القديمة ، وطرائق عملها البالية من قدمها حاضرة في كل مكان . وهي لم تغب من أي زاوية في فضاء العمل العام في سورية ، حتى يتم الحديث عن عودتها الجديدة .
ويتساءل آخرون ، إن كان وضع بعض أساليب العمل وأدوات الربط والضبط السلطوية في الجمادة لفترة من الزمن ، يؤهل للحديث عن تحول ما ، يفتح أفقاً لتطور الحياة العامة باتجاه ردم الهوة بين السلطة والمجتمع وشق مسار جديد في حياة البلاد .
غير أن ماهية السلطة وأهدافها الحقيقية شديدة الوضوح وغالبة . فتصرفاتها في السنوات القليلة الماضية طوت صفحة ذلك الجدل والتساؤل على يقينية مختلفة ، ووضعت الشعب السوري أمام الحقيقة العارية ، وهي أن لا شيء تغير في البلاد ، ولن يتغير أي شيء ما لم يتغير النهج الأساس للنظام والعقل السياسي للسلطة في التعامل مع كل من الدولة والمجتمع ويتخطاه إلى منظور جديد .
فلا تغيير الوجوه ، ولا لهجة الخطاب اللينة المبشرة بـ " التحديث والتطوير " ، ولا الإعلان المتواتر عن نوايا طيبة لجديد قادم ، يمكنها أن تبدل الصورة وتغير الاستنتاج طالما بقي الواقع العنيد أصلب وأشد وضوحاً .
وها هي السلطة تتناول من الثلاجة جديدها / القديم من وسائل وأدوات وطرق عمل ، كانت قد أخرجتها من الخدمة مؤقتاً . وتنفض الغبار عن صندوقها القديم ، لتخرج بعض محتوياته التي طالما اعتمدتها وجربتها وأنست إليها ، فلم تعد تستطيع العيش من دونها ، ضاربة عرض الحائط بالأخطار التي تحملها لمستقبل الوطن وحياة الشعب .
فاستأنفت تشغيل المحاكم الاستثنائية كمحكمة أمن الدولة العاليا ، وعادت لتنفيذ القانون 49 لعام 1980 . وفتحت أبواب السجن مجدداً للسياسيين وأصحاب الرأي المختلف ، وعقدت محاكمات صورية وغير دستورية لنشطاء المعارضة وحقوق الإنسان . وكأـنها تعيش في زمن مختلف يخصها وحدها بعيداً عن العصر وما يجري فيه . وقد أحيت مؤخراً واحداً من أقدم أساليبها في قمع الحراك المعارض ، ألا وهو نقل المعارضين من قطاع التربية إلى وظائف الدولة الأخرى بشكل تعسفي وظالم . وكانت قد أخرجت خلال عقدي السبعينات والثمانينات المئات من أفضل الكوادر التربوية من مدارسهم ووزعتهم على البلديات ودوائر المالية والنفوس ومديريات الصحة والنقل والشؤون الاجتماعية وغيرها من الأعمال الإدارية تحت شعار " تبعيث التعليم " . ومعروف للقاصي والداني حجم الضرر البلغ الذي أورثته هذه السياسة على سمعة المدرسة السورية الرسمية ، والخراب الكبير الذي أنتجته في قطاع التربية وهو مستقبل البلاد . وعوضاً عن الإقلاع عن هذه السياسة ومحاسبة القائمين عليها ، ها هي السلطة تقوم بجولة جديدة من الاضطهاد السياسي لجيل جديد من العاملين في حقل التربية في مختلف المحافظات السورية ، وخاصة في السويداء وحماة والرقة واللاذقية . حيث طالت قرارات النقل التعسفي عشرات المدرسين من أوساط المعارضة الوطنية الديمقراطية ، وخاصة من المؤيدين لإعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي وأطرافه .
وإذا كانت السلطة لا تتحسس الظلال القاتمة التي تلقيها إجراءات الاستبعاد والتمييز على تماسك النسيج الاجتماعي ، و الأخطار التي تلحقها بالشعور الوطني والوحدة الوطنية سياسات ( أولاد الست وأولاد الجارية ) ، فهل يتوقع أحد أن تسأل عن حجم الضرر الكبير الذي أحاق ويحيق بحقل التربية والتعليم نتيجة خسارته لعدد هام من خيرة أساتذة الجامعات والمدرسين والمعلمين المشهود لهم بالكفاءة العالية والوطنية الحقة والعطاء الجزيل ، وحرمانهم من عمل أبدعوا فيه بشهادة المؤسسات السلطوية نفسها ، وحرمان طلابهم من معين علمي وتربوي عز نظيره ؟ !
إن هذا الإجراء وأمثاله يحمل السلطة مسؤولية العواقب المترتبة على خرق قاعدة المواطنة القائمة على التساوي بين الجميع في الحقوق الواجبات والفرص المتاحة ، ونتائج سياسات التمييز والاستبعاد والتهميش التي تصر على اعتمادها ، مثلما يحملها – في الوقت نفسه – تبعات التخريب في الحقل التربوي ، الذي يستولده حرمان المؤسسات التربوية الوطنية من خيرة أبنائها والعاملين فيها .
4 / 4 / 2009 هيئة التحرير